بات الصراع العالمي بين القوى الكبرى أكثر تعقيدا وتصلبا، على الجغرافيا الأوراسية تصعب احتمالات الدبلوماسية، ولا يبدو أن أي طرف يريد اللجوء إلى تسوية إلا بعد حسم نتائج الحرب لصالحه، حيث تضاعفت التهديدات واتسعت. وفي المحيط الهادئ وشرق آسيا هناك أيضا سباق عسكري محموم، وتموضع استراتيجي وحرب مصالح وتحالفات على أكثر من صعيد.
الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو يدفعون لمواصلة الدعم العسكري وتقديم المعلومات الاستخباراتية لأوكرانيا بقصد ديمومة الحرب لإضعاف روسيا واستنزافها. كذلك يتصاعد التوتر بين أمريكا والصين، والمواجهات الأخيرة بين مانيلا وبكين أثارت مخاوف بين المراقبين الغربيين من احتمال تطور المناوشات في بحر الصين الجنوبي إلى حادث دولي، إذا قررت الصين، القوة العالمية، التصرف بقوة أكبر ضد الفلبين، حليفة الولايات المتحدة. التخوف نفسه يحدث مع كل تصعيد بين بكين وتايوان نقطة الصراع الرئيسية المحتملة بين القوتين العالميتين .
منطق إمكانية تجنب التصعيد الكارثي في إدارة الحرب، وإن كان يجده أمثال جون ميرشايمر غير مؤكد على الإطلاق، وهو شكل مخاطرة أكبر بكثير مما تعتقده الحكمة التقليدية العقلانية، فعواقب التصعيد يمكن أن تشمل حربا كبرى في أوروبا، وربما حتى إبادة نووية. لذا فإن هناك سببا وجيها لمزيد من القلق. وفي مثل هذه الظروف سيكون لدى صانعي السياسة الأمريكيين كل الأسباب للنظر في اتخاذ خطوات أكثر خطورة، إذا ما حسمت روسيا الحرب لصالحها، أو قامت الصين بضم جزيرة تايوان، أو غيرها من الكيانات التي تعتبرها جزءا من أمنها القومي. لا تستطيع موسكو تحمل الخسارة في أوكرانيا، وهي طالما اعتبرت إن الغرب «يلعب بالنار» بسبب فكرة السماح لأوكرانيا بضرب أراض داخل روسيا بصواريخ غربية، محذرة الولايات المتحدة من اندلاع حرب عالمية ثالثة لن تقتصر على أوروبا، ولذا فإنها ستستخدم كل الوسائل المتاحة لتجنب الهزيمة. روسيا باتت تواجه اليوم تهديدا أكبر مما كان عليه الوضع في بداية الحرب التي تعتبرها صراعا بالوكالة مع حلف شمال الأطلسي «الناتو» والولايات المتحدة هي أهم داعم عسكري ومالي لكييف. وحتى في أيامها الأخيرة، تبدو إدارة بايدن مصممة على تقليص المكاسب الإقليمية التي تحققت لروسيا وإعاقة القوة الروسية، رغم أن جو بايدن والمستشار الألماني أولاف شولتس، قلقان بشأن خطر التصعيد إذا أصابت الأسلحة الغربية روسيا نفسها. بخلاف المملكة المتحدة وفرنسا المتحمستان للسماح لأوكرانيا بضرب أهداف عسكرية في عمق الأراضي الروسية. أوكرانيا أصبحت أفضل تسليحا، وأصبح تحالفها أوثق مع الغرب الذي تبنّت أنظمة الحكم فيه العديد من حزم العقوبات الاقتصادية والمالية ضد روسيا، مستهدفة مسؤوليها، ومواردها في مجال الطاقة، ونظامها المصرفي، وشركات الطيران التابعة لها، وعددا من القطاعات الأخرى. السؤال إلى متى سيتواصل الخيار العسكري، وتحييد احتمالات التسوية والحل الدبلوماسي؟ الولايات المتحدة تتظاهر بأنها لا تريد الحرب، لكنها لا تمارس ما يمنع الحرب. هذا سلوكها مع روسيا والصين، وكذلك في الشرق الأوسط مع كل ما يحدث من تصعيد ومواجهات محتملة.
محور جديد بدأ بالتشكل في العالم، وهو مبني على الاضطرابات في تلك الدول، وتهديد مصالحها وأمنها القومي من طرف المعسكر الغربي
التفكير المتطرف السائد لدى كل الأطراف الآن، هو التصميم على تحقيق النصر في ساحة المعركة، كي يتمكن الطرف المنتصر من إملاء شروطه في أية تسوية لاحقة. روسيا اتسعت طموحاتها مع تطور الحرب وتصاعد الدعم الغربي لأوكرانيا، إذ أنها كانت في بادئ الأمر مهتمة بشكل أساسي بمنع كييف من أن تصبح «حصنا غربيا» على الحدود الروسية بانضمامها إلى حلف الناتو. وهذا ما أعرب عنه بوتين قبل الحرب بقوله، إن انضمام أوكرانيا إلى الناتو يمثل «تهديدا مباشرا للأمن الروسي»، ولا يمكن وقف هذا التهديد إلا عن طريق خوض الحرب أو تحويل أوكرانيا إلى دولة محايدة أو فاشلة. في الأثناء، سياسة الاحتواء المزدوج لروسيا والصين، التي ترفعها الولايات المتحدة الأمريكية، التي لم يعد تفوقها العسكري مضمونا، تبدو معادلة صعبة المنال. وتركيزها على حملة الردع لن يكون هو السبيل الوحيد للتعايش السلمي في عالم لم تعد تهيمن عليه. المواجهة بين روسيا والناتو مستمرة إلى اليوم، في سياق تصعيدي يتضح في نقاط الحشد العسكري لكلا الجانبين، والتهديد المستمر بتطور المواجهة، وبالتالي المسار ككل ليس دفاعيا تماما، كما جرت العادة خلال العقود الماضية ضمن سياقات الحرب الباردة. في المحصلة الجيوستراتيجية، روسيا الاتحادية لن تحيد عن مسعى تأسيس عالم متعدد الأقطاب بتحديث قواتها النووية، والتلويح بها كسلاح قابل للاستعمال. وحكمة حلف الأطلسي هي فقط من تمنع دمار الكوكب، هذا بالتزامن مع توطيد العلاقات الروسية مع كوريا الشمالية والصين، وأيضا مع إيران. محور جديد بدأ بالتشكل في العالم، وهو مبني على الاضطرابات في تلك الدول، وتهديد مصالحها وأمنها القومي من طرف المعسكر الغربي. وتمدد هذا المحور يعني تغييرا في المشهد الجيوسياسي العالمي على اعتبار أنّ هذه الدول الأربع ناقمة على النظام الدولي بشكل علني. وهذا التعاون الذي يجمعها، ويقلق واشنطن وشركاءها، ويعيق قراراتهم، اتسع بالتزامن مع الحرب في أوكرانيا على نحو تسريع وتيرة العلاقات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والتكنولوجية. وإن كان التعاون بين موسكو وبكين أوسع استراتيجيا، ويستهدف أساسا ردع سلوك واشنطن، الذي يهدد الاستقرار العالمي منذ عقود. في هذا الإطار تأتي تحركات الصين وروسيا في السنوات الأخيرة تتويجا للشراكة بلا حدود لمجابهة تهديدات المرحلة والتحديات الاقتصادية والتنافس الاستراتيجي مع واشنطن وأتباعها. والهدف النهائي هو اضعاف الولايات المتحدة ودورها العالمي، وتقليص فعالية أدوات السياسة الخارجية الأمريكية بما فيها من عقوبات مختلفة، بشكل يجعلها بلا قيمة أو أثر. ويبقى من المؤكد أنه لا يوجد خطأ في أن تسعى الولايات المتحدة وروسيا والصين إلى التقارب والتعاون في القضايا الدولية الرئيسية التي تواجه العالم في الوقت الحاضر. ويعد ذلك من الأمور الضرورية لتحقيق آمال حول مستقبل أفضل للبشرية.
كاتب تونسي