المصطبة

كنت قد استيقظت لتوي.. وضعت شالي الصوفي على كتفيّ بعناية، وخرجت إلى المصطبة/الترّاس/ كما اعتدت أن أفعل كل صباح.
قاسيون كان خلفي، وقد طوقتني دمشق حيث أسكن في أعلى جادات حي المهاجرين، بنصف دائرة، بدت لي حلوة كما هي عليه دائما، وأنا أنظر من علو إلى البساتين والحقول والمدى والمطر. من بعيد لاحت حقول داريا والغوطة وصولا إلى البساتين المحيطة بأرض المطار، بدت جميعها أرضاً محروقة، بلون الرماد، ومع إدامة النظر، أطبق على قلبي، حزن عميق، إذ أتذكر كيف كانت قبل أن تحرقها نيران الحرب تزهو بالخصوبة والخضرة والثمار.
العجيب أن الصباح بدا جميلا منعشا، تحمل نسماته الرطبة، رائحة الأرض طازجة طرية، محملة بوعد ربيع قريب. فكرت، كم هي الطبيعة حيادية ومراوغة! تمشي في سيرورة لا محيد عنها، غير عابئة بشيء. لا أحد مثل أمي، يجيد صنع الجمال، لها أسرارها، صغيرة وغامضة. تواري الشتلة في التراب، فإذا هي تنمو وتربو وتتفرع نبتة زاهية، وهكذا جعلت من المصطبة مكاناً، مكاناً حقيقياً تصعب مفارقته، ينبض روحا وعشقا وأنفاساً. وأنا كم أعشق الأمكنة الحقيقية! أقول لها وعيني تعانق ورودها وياسمينها وفلها وأقحوانها..
ايدك خضرا يا أمي.
يشرق وجهها وتجيب جادة، ينبغي علينا أن نسمح لمن يريد أن يعيش، ليعيش.
اليوم بدت المصطبة تجسيداً كاملا للفقد، فقد لوت زريعة أمي رأسها، ماتت مختنقة في أحواضها وأصصها، ولم تبق منها إلا وريقات يابسة، تلعب بها الريح، أجهد كل يوم في لملمتها ورميها بعيداً، كان عليّ أن أرى أثر هذا المشهد الحزين من خلال عينيّ أمي. لكن أمي ماتت، كما ماتت ورودها وأسرارها معها، كما مات الكثير من الأشياء الجميلة في حياتنا، لم تترك لنا سنوات الحرب إلا أسوأ الذكريات.
أمي التي ماتت فجأة، في نهار شتوي هزيل الضوء، أمي التي كان في مقدورها الابتسام في أقسى الأوقات صعوبة، عشت وإياها سنوات الحرب وحيدتين، في بيت العائلة، نمارس لعبة الحب كأم وابنة، ونتبادل الشكوى والحنين كأرملتين، يحاول كل منا أن يُبهج الآخر، ويرسم على شفتيه ابتسامة، يحدث أن نتبادل الأدوار أحيانا، فأكون أنا الأم وتكون هي طفلتي، وهكذا… كانت صدمة أن أراها فجأة ميتة، وهي التي كان وجودها القوي يملأ الدنيا عليّ، تهاويت كشجرة اقتلعت من جذورها.
ماتت مكسورة القلب يا سليمى!
هكذا قال أخي الذي جاء من باريس سريعاً وهو يبكي كالأطفال. وردت عليه اختي التي وصلت من دبي بعده بساعات:
لا تقل هذا، هذا كفر! ماتت لأنو خلص عمرها.
لكن أخي أصرّ وهو يستمر بالبكاء، على أنها ماتت لأنها مكسورة القلب. هل تموت الأمهات بسبب قلوبهم المكسورة؟ سألت نفسي بانكسار!
هبت ريح باردة، انقلب الجو فجأة، بدأت السماء تمطر بقوة، تذكرت أننا ما نزال في الشتاء، رغم الربيع الذي هلت بوادره، فشددت دثاري الصوفي عليّ، وعدت إلى الداخل. ذهبت إلى المطبخ لأعد القهوة، جرة الغاز خاوية، وعين الكهرباء الوحيدة، بلا كهرباء! والبيت بارد، والخزان خال من الوقود والحطب، لا أعرف كم من الوقت مرّ دون أي وسيلة تدفئة.
حسناً، ليكن الصباح بلا قهوة، بلا كهرباء، بلا نت، بلا دفء..
يتوجب علي أن أواجه تفاصيل همومي الصباحية التي تتكرر كل يوم. وأن أجد لها الحلول، ألم يقل كافكا إن الذكاء هو القدرة على التكيف!
جلت في غرف البيت الكبير، الذي بقيت أعيش فيه بعد موت أمي، كيف لبيت فارغ إلا من الذكريات أن يكون!ً
لا أدري لمًا لاحت لي تلك الليلة!
يا إلهي كم تبدو بعيدة! كم من السنوات مرت؟ خمس عشرة! أقل، ربما أكثر! مرت على ليلة الحب الوحيدة التي عشتها مع الرجل الذي أحببته، في حياتي.
الغريب أني عشتها في هذا البيت. ما زلت أكابر، رفضت دعوة أخي لترك البلد، والإقامة حيث يقيم هو في باريس. أدرك أني في اللحظة التي أقرر فيها ترك بيتي، سأكون منفية عن مكاني الأصلي، متروكة للوحدة والخذلان، فرغم كل الهزائم والانكسارات، التي عصفت بحياتي، أردت أن أبدو أمام الجميع قوية ومتماسكة، مع أني مجروحة وقلبي مليء بالدموع.
لكن إلى متى؟

روائية سورية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية