فلاح الطَّاهر:
كنَّا مجموعةً من الطلاب الفلسطينيين، نتعلَّم في « ثانوية الضياء المسائية الخاصة» الواقعة قرب مخيمنا. لم نكن ندفع أقساطاً، كانت قياداتنا تأخذ منحاً من إدارة الثانوية، فتعطيها لنا.
كنَّا مسلَّحين، والدنيا حرب، لا نكترث لا بناظرٍ، ولا بمعلِّم، لذلك عندما صرنا في صفِّ «شهادة البكلوريا» جمعنا مدير الثانوية في شعبةٍ واحدة هي الشعبة «دال» وقال لنا، عندما سألناه عن السبب: أريد أن ينجح طلاب بقية الشعب بـ»البكلوريا» وأنتم ذنبكم على جنبكم، نجاحكم بأيديكم.
هرَّبنا، في الأسابيع الثلاثة الأولى من العام الدراسي، ثلاثة معلِّمين. كنَّا منتشين بانتصاراتنا على الإدارة والمعلمين، عندما جاء الأستاذ نبيل ليُعلِّمنا.
عندما دخل لأول مرَّة الى صفِّنا استصغرناه. كان شاباً معتدل القامة، نحيلاً، طويل اللحية، يحمل حقيبة جلدية كبيرة سوداء. لم نقف له عندما دخل، وصبَبنا نظراتنا عليه. قال، وهو يجيل النظر في غرفة الصَّف الواسعة: مساء الخير. لم نردّ تحيَّته. خطا على مهل، وجلس وراء مكتبه، ووضع حقيبته أمامه، وقال: وإذا حُيِّيتم بتحيةٍ، فحيُّوا بأحسن منها. وقفت أنا، وكنت أحسب نفسي، قائد المجموعة، وأشرت الى الحقيبة، وقلت: حزرتي هذه الشنطة شنطة «مُطهِّر» وتعالت الأصوات منغَّمة: غلطان بالنمرة، يابو سمره، هل نبقى دون « طهور» بعد هالكَبرة!؟
انتظر إلى أن صمتنا، فقال: يجب أن أتأكد ممَّا تدَّعون. انهضوا، وقفوا في الصف أمامي، وأشار إليَّ، وأضاف: وأنت كبيرهم، كما يبدو، افحصهم واحداً واحداً، واخبرني بالنتيجة، وهذه الموسى جاهزة، وفتح جيباً من جيوب حقيبته، وأخرج موسى، وأرانا نصلها الحادَّ اللمَّاع.
فوجئنا بقوله غير المتوقَّع، ورحنا نتبادل النظرات. بقينا صامتين. ولما طال صمتنا، ضحك، وقال: نتعارف أولاً. أنا نبيل عامل.
ارتفعت الأصوات كأنَّ سدَّاً من الكلام انفجر:
اسمك ناقص، يا أستاذ!
عامل شو، يا أستاذ؟
عامل عملي، وجايي تعلِّمنا الأدب، يا أستاذ!؟
قال: ذكيٌّ من قال ان اسم الشهرة ناقص، قف واخبرنا ماذا حُذف منه؟ لم يردّ أحد، فقال: أنا أُجيب، يبدو أنَّ الأصل في الاسم: «من جبل عامل» نسبة إلى قبيلة عاملة العربية، فحُذف «من جبل». قال أحدهم: يعني أنت عربي؟ قال له: صحيح، وأنت؟ أجاب: صهيوني، وقهقه. قال: اهجموا عليه بالسحاسيح، هجمنا، ونحن نقول: يا للعار، صهيوني بيننا». هرب الطالب الى اَخر القاعة، وهو يقول: عرب، شو عاجبك بهزايم العرب!؟ وقال اَخر: جايي تعلِّمنا الأدب أو «السحسحة»!؟ عدنا إلى مقاعدنا، وارتفع صوت عالٍ: هل نحن دون أدب!؟ نحن مؤدَّبون.. وبدأنا ننغِّم كلماتنا، مصحوبة بضربات قوية من قبضاتنا على طبقات المقاعد: أدب يا أدب، عرب، يا عرب، هزايم، يا عرب، الأستاذ كان هون وهرب، هرب، هرب الأستاذ، يا عرب…. لم يهرب الأستاذ نبيل، وإنما بقي ينظر إلينا ويبتسم. سكتنا لمَّا رأيناه لا يزال وراء مكتبه، فقال: أخطأتم، في فهم كلامي. أنتم، كما يبدو، مؤدَّبون، والأدب الذي سنتعلمه هو نوع من الكلام الجميل.. قلت أنا: اسمع، يا أستاذ ما أقوله، وقل لي: هل هو من الأدب؟ قال: تفضل. علت أصوات: يفضل عليك، ويطوِّل.. صرخت أنا: لا إلا هذا. سكتت الأصوات. أضفت: أنا قلت لحبيبتي: حبِّي لك مثل هزائم العرب.. غنجت: شو يعني!؟ قلت لها: دائمٌ لا ينضب. قال: حلو الكلام، ومعبِّر عن نصف الحقيقة.
فقلت للأستاذ: ما هو الأدب الذي جئت تعلِّمنا إياه؟ فقال: سأحكي لكم حكاية، وأسألكم، بعد نهايتها، أسئلة، فتجيبون أنتم، إن كنتم أذكياء، عن سؤال: ما هو الأدب؟ فارتفع صوت: هل جئنا إلى الثانوية لنحكي حكايات!؟ كنا بقينا في البيت، وحكت جداتنا لنا حكايات الغول والجنية.. عارضه صوت اَخر: احك، يا أستاذ، نحن نحبُّ الحكايات. وتلاه صوت: احك، واسأل، فنحن الأذكياء. ساد صمت، فبدأ الأستاذ يحكي:
«كانت ليلى امرأة في أواخر العقد السادس من عمرها، وكانت تعيش في قرية حدودية من قرى لبنان الجنوبي. كانت لا تزال قوية وجميلة. سمعت أنَّ طريق فلسطين فُتِحت، عندما أقام جيش الاحتلال ما سمَّاه الجدار الطيب على الحدود، بين لبنان وفلسطين المحتلَّة. تجمَّلت، ولبست أزهى ثيابها، وجاءت الى الجدار. قالت للمسؤول: قالوا لي: طريق فلسطين فُتحت. قال لها: ما في فلسطين. هاي إسرائيل، فتحت جدار طيِّب. قالت له: اخرس ولاه. ما في إسرائيل، فلسطين بلادنا. أنا من صفد، وخطيبي من الخالصة، وجهازنا جبناه من القدس، وأنا ناطرة تفتح طريق بلادنا لروح لعند خطيبي اللي راح يحارب الصهاينة، وتركني عند صحابو، وقلِّي: أنا راجع بعد ما نطهِّر أرضنا من المستعمر. قال لها المسؤول: كان هذا من زمان. قالت: ونحنا بدنا نرجع الزمان اللي راح.. زغردت، فتجمَّع الناس حولها، فصرخ المسؤول برجاله: أخرجوا الجميع، وسكّروا البوابة».
ارتفعت الأصوات، في القاعة: بلادي، فلسطين بلادي، أنا راجع عابلادي..
خفتت الأصوات، ثم ساد صمت، فبدأ الأستاذ يسأل ونحن نجيب:
هل لغة هذه الحكاية سليمة وجميلة؟
– نعم.
– هل تنقل تجربة حياتية معيشة؟
– نعم.
– هل هي مشوِّقة وممتعة؟
– نعم.
– هل تنطق برؤية الى الواقع الذي تنقله؟
– نعم.
– من منكم يجمع إجاباتكم، ويقول لنا: ما هو الأدب؟
ارتفعت أيدٍ كثيرة، وراح الأستاذ يعطي الكلام للطلاب بدءاً من المقعد الأوَّل، إلى أن أدلى الجميع بإجاباتهم، فسأل: هل عرفتم، الاَن، ما هو الأدب؟ قلنا: عرفنا. وسألت أنا: والكلام العامي الجميل، أليس أدباً؟ قال: بلى. ارتفع صوت: متل شو يعني، يا أستاذ؟ فقال:
يا طير الطاير عدِّيري،
علقدس الشريف، علبيري،
وتراب بلادي سجاد حريري،
والميِّي بلسم، والبعد جنونا… صرخنا: حياك الله، يا أستاذ.
وخرجنا من مقاعدنا، واصطففنا، وبدأنا ندبك، ونغني: على دلعونا، وعلى دلعونا… الميِّي بلسم، والبعد جنونا، فأسرع، وأمسك بيدي، وكنت «الحوَّاش» وقاد الدبكة بمهارة، والجميع يهزج:
على دلعونا، وعلى دلعونا،
تراب بلادي أحلى ما في الكونا…
طالت فرحتنا. تجمَّع كلُّ من كان في الثانوية أمام غرفتنا وحولها، فخرجنا الى الملعب. دبك الجميع وغنوا.
وفي اَخر السهرة، أحطنا بالأستاذ نبيل، وقلنا له: لا تتأخر علينا غداً، نحبُّ أن نتعلَّم المزيد من هذا الأدب.
فصل من رواية «المصيدة» رواية جديدة لعبد المجيد زراقط تصدر قريباً عن دار «البيان العربي» في بيروت.
كاتب لبناني