هل للطعام طبيعية إثنية أو دينية أو طائفية؟ نعم، هكذا يجيب علماء الأنثروبولوجيا. لكن هل يعني ذلك أن أبناء قومية ما، أو دين ما، أو طائفة ما لا يمكنهم طبخ أو أكل طعام تختص به مجموعة أخرى؟ بالتأكيد لا، هكذا تجيب المسوح الاجتماعية، وبشكل خاص المجتمعات التي تأثرت بالتطور التكنولوجي وانتشار وسائل الاتصال وما صاحبها من سهولة التعرف على الآخر في المجتمع ذاته، أو في مجتمعات مختلفة، وهذا الأمر بدوره سهّل انتقال العادات والتقاليد بين المجتمعات، ومن ضمن تلك العادات المنتقلة عادات المطبخ الذي تختص به المجموعات الاجتماعية.
هنالك دلالات أنثروبولوجية للطعام، تشمل تنوع المأكولات وتوقيتاتها؛ المفضل منها، أو الممنوع والمسموح، وهي تمكن الباحث من فهم المجتمع المدروس، إذ تُشير موسوعة الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية، التي قام بتحريرها آلان بارنارد وجوناثان سبنسر، إلى الطعام باعتباره واحدا من أقوى أدوات التعبير عن التفاعلات الإنسانية، إذ يمثل مستودع المعاني الاجتماعية المكثفة، كما إن أي نظام غذائي له أبعاد متعددة (مادية، اجتماعية، ثقافية، غذائية وصحية)، وجميعها مترابطة مع بعضها.
الطعام يستمد قوة تأثيره من شبكة العلاقات المتبادلة التي يثيرها، إذ تم الاعتراف بالترابط بين الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، باعتبارها عناصر أساسية في صياغة سياسات غذائية فعالة
كما تجدر الإشارة إلى أن الطعام يستمد قوة تأثيره من شبكة العلاقات المتبادلة التي يثيرها، إذ تم الاعتراف بالترابط بين الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، باعتبارها عناصر أساسية في صياغة سياسات غذائية فعالة، وفي هذا الإطار إذا أردنا الحديث عن المطبخ العراقي إنثروبولوجيا، يمكننا بسهولة أن نشير إلى عدة مطابخ مجتمعة ومتجاورة ومتأثرة ببعضها بعضا، ولدت وتشكلت نتيجة تنوع الهويات الفرعية في العراق. واذا تكلمنا عن أكلة «الدليمية» التي يرتبط اسمها بواحدة من أكبر التجمعات القبلية الساكنة غرب العراق، وهم قبائل دليم السنية في الغالب، فإننا نجد إن هذه الاكلة ابتدأت بجذرها البدائي، من الثريد البسيط وتطورت نتيجة التغيرات التي طرأت على المجتمعات البدوية، التي كانت تتناولها حتى وصلت إلى الشكل المترف والمرفه الذي تبدو عليه اليوم. فهي في الأصل ثريد خبز القمح او الشعير المقطع إلى قطع كبيرة والمغمور بمرق اللحم المسلوق، والمقدم في أوانٍ أو أطباقٍ كبيرة، حيث تعلو الثريد قطع اللحم الكبيرة، وعادة ما يتشارك الطعام مجموعة من الأفراد، يتناولون طعامهم باليد، من دون استخدام الملاعق. هنا يجب الإشارة إلى أن وجبة الثريد واللحم ليست وجبة يومية بالنسبة للبدوي، بل هي وجبة مناسبات يتم فيها نحر الذبائح، وقد دخل على هذه الأكلة تطور لاحق لتصبح «دليمية»، إذ أضيف إلى طبقات الثريد، طبقة او غلاف من الرز ليلحق بعد ذلك بوضع قطع اللحم، وهنا يمكننا ملاحظة أن هذه الأكلة شبيه بأكلات من المحيط الجغرافي القريب على مناطق وجود قبائل غرب العراق، مثل المنسف الأردني، الذي يتميز عن «الدليمية» العراقية، بإضافة اللبن الرائب «الجميد»، الذي تتم إذابته بالماء ويطبخ فيه اللحم، ثم يوضع محلول الجميد الساخن على خليط الخبز والرز واللحم قبل الأكل مباشرة، ويشير بعض الباحثين إلى إن «المنسف» الأردني تاريخيا كان متطابقا مع «الدليمية» العراقية، ويعود تاريخه إلى أكثر من 3 آلاف عام، لكنه تغير نتيجة طلب الملك المؤابي «ميشع» من أبناء شعبه في القرن التاسع عشر قبل الميلاد طبخ اللحم باللبن، مخالفا بذلك شريعة وعادات قبائل اليهود البدوية المجاورة للمؤابيين، والداخلة في صراعات معهم، الذين يحرّمون خلط اللحوم بالألبان، وبذلك تمكن «ميشع» من خلق هوية تميز أبناء شعبه عن اليهود. وبما أن الطعام يحمل رموزا ودلالات يمكنها أن تبين ما حصل من تغير اجتماعي، فيمكننا أن نلاحظ ذلك على «الدليمية» التي تغيرت نتيجة حالة الوفرة والرفاهية، التي مرت بها مجتمعات قبائل غرب العراق، إذ أصبح اللحم المقدم يقتصر على لحم صغار الضأن لترافته وطعمه المميز، الذي يسلق ويقلى وتضاف له المطيبات العطرية والتوابل، كما تُرش على وجه صينية «الدليمية» المكسرات من الجوز والفستق بعد قليها مع الشعرية كتجميل مرافق لقطع اللحم الكبيرة، كل ذلك يمثل تحولا بنيويا في أكلة الثريد البدائية، وصولا إلى «الدليمية» الحديثة. واذا اعتبرنا أن لـ»الدليمية» هوية سنية، فيمكننا القول بالمقابل أن لأكلة «الفسنجون» هوية شيعية مميزة، فهي من الأكلات التي اختصت بتقديمها مدن الشيعة مثل، كربلاء والنجف والكاظمية، وقد يشير البعض إلى احتمال ارتباط بعض الأكلات بطقوس دينية مذهبية شيعية مثال ذلك أكلات «القيمة» و»الهريسة» التي تطبخ وتقدم في مراسيم عاشوراء الشيعية، لكننا نقول ونحن إزاء «الفسنجون»، إننا نتعامل مع أكلة ليست ذات بعد ديني أو طقوسي.
ويشير بعض الباحثين في أصول المطبخ العراقي وتحديدا المطبخ الكربلائي الذي استورد طبق «الفسنجون» من المطبخ الهندي في القرن التاسع عشر، بعكس الاعتقاد السائد بأنه مستورد من من المطبخ الفارسي، إذ يشير الباحثون إلى أن هذه الأكلة دخلت مدينة كربلاء، الجامعة لمختلف الإثنيات (عربية، فارسية، تركية، هندية) في القرن التاسع عشر مع هجرات العوائل الهندية الشيعية التي استقرت في المدن العراقية بجوار الأضرحة المقدسة، لكن تم تعديل بعض مكوناتها لتتوائم مع طبيعة المطبخ العراقي. و»الفسنجون»من الأكلات المعقدة التي تمتاز بغرابة خلطة مكوناتها، كما إنها معقدة في طريقة تحضيرها، فهي من الأطباق التي تعرف باسم أكلات (الحامض حلو) القليلة الانتشار في المطبخ العراقي، وهي عبارة عن مرق كثيف ذي لون رمادي مائل للسواد، ويطبخ عادة بلحم الديك أو الدجاج أو البط، لكن لحم الديك هو المفضل في صناعة طبق «الفسنجون». أما المكونات الأخرى فهي حب الرمان ودبس الرمان، والجوز المبروش الذي يجب أن يطحن جيدا حتى يصل إلى القوام الهلامي، والخل، ويضاف إليه الراشي (طحينية السمسم) ، وإن خلطة الطحينة مع دبس الرمان يعطي مذاقا مميزا لطبق «الفسنجون». وتجدر الإشارة أيضا إلى التغيرات التي لحقت بهذه الأكلة، إذ أصبح يتم وضع الفستق الحلبي لتزيين وجه الطبق، الذي يقدم عادة مع الأرز الأبيض المطبوخ والمزين بالزعفران والمضاف له السمن الحيواني (الدهن الحر)، لكن البعض يفضلون طبق «الفسنجون» مع (تمن الباقلاء). وفي الغالب تعد هذه الأكلة من الأكلات الشتوية التي تمنح الإنسان سعرات حرارية عالية تساعده على التغلب على برودة الشتاء.
فإذا انتقلنا إلى المطبخ الكردي من مطابخ العراق ذات الهويات المميزة، سنلاحظ بشكل جلي دخول اللبن الرائب الذي تشتهر كردستان بإنتاجه، يدخل في الكثير من الأكلات بطريقة غير مألوفة في مطابخ الجزء العربي من العراق، الذي يدخل فيه اللبن الرائب كطبق يتم تناوله مع التمر، أو يشرب كشراب يقدم مع الطعام بعد تخفيفه بالماء ليصبح «شنينة» لكنه نادرا ما يدخل في الطبخ. ففي مدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق يسيطر لبن أربيل الشهير على أشهر الأطباق الكردية، ويشير عدد من الباحثين في تاريخ الطعام إلى أمر مفاده: لا يمكنك أن تتعرف على طعام على أنه طبق كردي، أربيلي بالتحديد، من دون نكهة لبن أربيل الداخلة في مكوناته، وهنا يمكننا الحديث عن أكلة عراقية مفضلة لدى شرائح واسعة من العراقيين، وهي «الدولمة» أو المحشي العراقي، لكننا هنا سنتكلم عن «الدولمة» الكردية، أو كما يسميها البعض «الدولمة البيضاء» او «الدولمة باللبن»، إذ يختلف المطبخ الكردي عن بقية المطابخ العراقية في تحضير طبق «الدولمة» باستخدام اللبن الرائب، بدلا من معجون الطماطم، الذي يستخدم في الغالب في طريقة تحضير «الدولمة» العراقية، التي تشمل حشو الخضروات مثل ورق العنب، أو السلق، والبصل والفلفل بخلطة الرز واللحم المفروم ويضاف لها اللبن الرائب ليكون لونها أبيض.
ويمكننا أن نورد ملاحظة أنثروبولوجية عن فروقات المطبخ لكل منطقة، إذ يمكننا الإشارة إلى وجود اللبن الرائب في الطعام الكردي لأسباب أيكولوجية، إذ تشير المعطيات إلى أن وفرة الثروة الحيوانية في إقليم كردستان، وعادات الكرد الغذائية التي اعتمدت على تناول الطعام البسيط المكون من الألبان والفواكه والمكسرات مثل الجوز واللوز والصنوبر، أكسب المطبخ الكردي هوية متمايزة عن عدة مطابخ مثل العربي أو التركي أو الفارسي المجاورة له والمتداخلة معه في الخطوط العامة. ونتيجة وفرة الحليب ومشتقاته من الألبان بات اللبن الرائب يدخل في تحضير عدة أطباق كردية..
كاتب عراقي