أنا لا أمللك بيتا أنزع فيه تعبي
لكني كالبرق أبشِّر بالأرض
وأبشِّر أن الأمطار ستأتي
يا زهرة بيتي، يا وطني، أمطرني.
محمد الماغوط
عشرات الشعراء تغنوا بالمطر في الحب والفرح والفراق والنفي والأسى، ليس مقالي عنهم ولا يتسع. أنا من المؤمنين بأن المطر خير. العالم يمر باحتباس حراري تسبب في ارتفاع درجات الحرارة. أسباب الاحتباس الحراري كثيرة منها، المصانع التي تفرز عوادم الطاقة، خاصة حين تكون الطاقة من البترول ومنتجاته. كذلك الاعتداء على مياه البحار التي جعلها الكون مع الأرض الجافة في توازن بعد آلاف السنين من التداخل والتغيرات فيهما.
تربينا على أن المطر خير فبه تتم الزراعة، وحين ينقطع يصلي المسلمون صلاة الاستسقاء فيستجيب لهم الكون بالمطر. طبعا لا أحد يصلي في بلادنا هذه الصلاة الآن، فالسد العالي يحجز المياه الكافية للزراعة وأكثر المهم أن يستمر النيل في جريانه! ظللت أسمع منذ الطفولة دعوات الناس بالمطر وفرحهم حين ينزل وكيف لمن في بيته أن يمد يديه من النافذة أو البلكونة لينزل عليها المطر يباركها. لم نكن نخشى المطر ونحن صغار في الإسكندرية، بل كنا ننتظر حتى ينتهي ونخرج إلى الشوارع أو نذهب إلى السينما. كانت العودة وسط الليل والمطر هابط من السماء هي من أجمل المسيرات، فشرفات منازل الإسكندرية القديمة تحمي من يمشي في الشارع ولا يشعر بالبرد، فشتاء الإسكندرية كان دافئا.
مدينتي التاريخية الإسكندرية تعرضت لما أضاف احتباسا إلى الاحتباس الحراري في الكون، فبعد بناء السد العالي رغم حسناته العظيمة في الزراعة الدائمة وإنتاج الكهرباء ضاع التوازن البيئي بين ما كان يحمله النهر من طمي ينتهي إلى البحر المتوسط، فقد صار أكثر الطمي يترسب في البحيرة خلف السد. الطمي المنتهي إلى البحر المتوسط كان يمنع تآكل الشواطئ، ما قد يخفي المدن شيئا فشيئا، كذلك لا يتيح الفرصة لمياه البحر المالح أن تتسرب إلى جوف الأراضي الزراعية. من اللطيف أن أول من احتج على انقطاع الطمي من البحر المتوسط كان سمك السردين، الذي كان أكبر موسم لصيده من البحر هو موسم فيضان النيل، فكان يأتي بالقرب من الشواطئ يتغذى على الطمي، وبعد بناء السد العالي انقطع عشرين عاما عن البلاد، حتى تعوّد على الجوع وعاد إلى الوطن! صار نحيلا خاليا من الدهن لكنه عاد. لقد رأيتهم في الإسكندرية في السبعينيات من القرن الماضي يضيفون إلى الصخور التي تحجز الموج عن الشاطئ صخورا أخرى، ولم أجد تفسيرا غير الخوف من النحر في شاطئ المدينة.
زاد الاحتباس الحراري في المدينة منذ منتصف السبعينيات، حين بدأوا في ردم بحيرة مريوط وهي البحر الجنوبي للمدينة التي كتب عنها ابنها الشاعر محمد علي أحمد أغنيته الخالدة «بين شطين ومياه عشقتكم عنيا». شيئا فشيئا تآكل هذا الشاطئ وبنيت في البحيرة مصانع ومحلات وقرى جديدة، وكان أهم ما يأتي من البحيرة غير السمك، هو الريح التي تأتي من الغرب تمر عليها فتحمل من مياهها ما يسقط بعد ذلك شتاء مع الشتاء الطبيعي الذي يأتي في موعده. لم يكن الشتاء ينتظر موسمه فهو يبدأ في آخر الخريف في شكل نوّة كبيرة تسمي «نَوَّة المكنسة» تأتي بعد العشرين من نوفمبر/تشرين الثاني، رأيتها تكنس الشوارع رغم أنها تكنس البحر من مياهه وتحملها إلى البر. كانت المدينة مهيأة لاستقبال المطر منذ بداية الخمسينيات، فكانت شبكات المجاري منها ما يخص الصرف الصحي ومنها ما يخص المطر.
من ينسى من جيلنا أغنية الطفولة «يا رب تشتي واروح لستي تعمل لي فطيرة قد الحصيرة آكلها وانام واقوم جعان» وهي بالمناسبة من أغاني أهلنا في فلسطين وربما الشام، فلم تكن الإسكندرية بعيدة عنهم، بل على طول التاريخ كانت صدرا مفتوحا لاحتضانهم، وكانوا من أهلها وصناع نهضتها.
لا أعرف من أشار على أحد محافظيها في السبعينيات أن يجمع المجريين في مجرى واحد فضاق عن تحمل الصرف الصحي والمطر معا فصار الشتاء يعني غرق الشوارع، لكن ظللنا نحبه ونعرف أن الخطأ ليس منه لكن من الحكومات التي تداهمنا بأخطائها كل يوم وآخرها إخفاء الشاطئ الباقي، شاطئ البحر المتوسط نفسه من منطقة الشاطبي إلى منطقة المنتزه، فقد ملأوه بجراجات السيارات والكافتيريات والأسوار. كل ما جرى بالإضافة للاحتباس الحراري الذي يسود العالم، أبعد المطر عن المدينة وعن مصر كلها. ها نحن نقترب من نهاية ديسمبر/كانون الأول ولم تأتِ نَوَّة المكنسة ولا بقايا نَوَّة المكنسة ولا نَوَّة قاسم التي بعدهما وهي ممطرة أيضا، ونقترب من نَوَّة الميلاد التي تأتي مع نهاية العام، ولم تهل بشائرها وأتمني حين يُنشر هذا المقال ونكون قد اقتربنا جدا من نهاية العام أن تأتي نَوَّة الميلاد. لماذا؟ لأني ما زلت على يقين أن المطر خير. ليس لأن تزرع أرضا، لكنه خير يأتي في الحياة نفسها وفي حياة كل شخص.
الدعاء إلى السماء لا يمنعه المطر الهابط منها عن الصعود فيستجيب الله للداعين. أرى الإسكندرية الآن وأحن إليها حين كانت تأتي نهاية العام ويسهر أهلها ليلة رأس السنة، وفي الساعة الثانية عشر ليلا ينتهي اليوم الواحد والثلاثون من ديسمبر، فيخرج أهلها بالزجاجات القديمة يلقون بها من النوافذ يودعون العام فمهما كان جميلا يأملون في عام أجمل. هي عادة منذ كانت مدينة العالم ويقال إنها يونانية الأصل، لكنها أيضا مصرية الروح فالمثل الشعبي المصري «اكسر قُلة وراه» يلخص عادة فرعونية قديمة، فكسر القُلة وراء الشرير لا يجعله يعود. بالنسبة لمرور العام الذي ربما كان جميلا فالمصريون يريدون الأجمل دائما. المهم أن هذه العادة مشت مع تاريخ المدينة، لكن للأسف مع نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات صارت تقل مع الدعاوى الوهابية بحرمة الاحتفال برأس السنة، حتى كادت بالفعل تنقرض. عادت شيئا ما مع ثورة يناير/كانون الثاني لكنها عادت تقل الآن من جديد. هزيمة الثورة دفعت الكثيرين إلى الاستسلام للآراء الغريبة عنا مثل حرمة رأس السنة وحرمة شم النسيم وحرمة الاحتفال باليوم الأربعين للمتوفى وحرمة الكثير مما هو جميل في تراثنا الفرعوني وتراث المدينة البحر متوسطية.
لن أزيد في السياسة لكن سأعود إلى انقطاع المطر عن المدينة، أو كما نقول نحن ابناءها مهما ابتعدنا عنها انقطاع الشتاء. كلمة «الشتاء» في الإسكندرية لا تعني فصل الشتاء فقط، لكن تعني المطر نفسه.
من ينسى من جيلنا أغنية الطفولة «يا رب تشتي واروح لستي تعمل لي فطيرة قد الحصيرة آكلها وانام واقوم جعان» وهي بالمناسبة من أغاني أهلنا في فلسطين وربما الشام، فلم تكن الإسكندرية بعيدة عنهم، بل على طول التاريخ كانت صدرا مفتوحا لاحتضانهم، وكانوا من أهلها وصناع نهضتها. كم كانت ليالي الصبا والشباب رائعة لي وأنا اقرأ ليلا كعادتي وأسمع صوت المطر ـ الشتاء ـ الهابط على السطح أو الشارع، وكم كانت ليالي قراءاتي في أعمال دوستويفسكي بالذات رائعة وسط الشتاء، فكنت أرى شتاء روسيا في ما اقرأ، ويتوحد مع المطر الهابط حولي وفوق منزلنا الذي كان من طابق واحد حتى إني حين سافرت المرة الوحيدة إلى الاتحاد السوفييتي نهاية عام 1990 وكانت الرحلة تشمل زيارة مدينة كييف عاصمة أوكرانيا ركبت قطار النوم بالليل ولم أنم. اخترت الجلوس في الممر أمام غُرف القطار حيث توجد مقاعد مثبتة في الجدار يمكن بسطها والجلوس عليها لأرى الجليد حولي وأتذكر ليالي دوستويفسكي البيضاء وليالي قراءتي له بين المطر. في عام 2010 وفي شهر نوفمبر سافرت إلى الإسكندرية أزور صديقا مريضا في المستشفى وكان المطر قد انقطع عن البلاد لسنوات قبلها، لكن حدث أثناء الزيارة أن جاءت «نوة المكنسة» بقوة كأنما احتشدت بالسنين السابقة، فعدت لأقول انتظروا الخير مع الأيام المقبلة، فقد عادت نوَّات الاسكندرية.
لم يمر شهر وجرت وقائع ثورة يناير. رغم فشل الثورة لأسباب ليس مجالها هنا، أدعو الله أن تأتي النوات المقبلة في موعدها. من يعرف كيف سيكون الخير. وكم نحن في حاجة إلى النوّات والخير معها.
روائي مصري
نحن أيضا في الجزائر نعاني من شح الأمطار ????????????????????
الله يلطف بعباده ?
شكرًا أخي إبراهيم عبد المجيد. إذا كان مؤتمر المناخ الذي عقد في منطقة سياحية أو مايسمى شرم الشيخ، وطبعًا حتى يبقى الواقع المرير بعيدًا عن أنظار العالم!، قد فشل فشلًا قاسيًا! وربما بمكن القول الأن أنه كان يهدف إلى تبييض صورة النظام أكثر من مناقشة أزمة المناج، فكيف يمكن أن يأتي المطر! أو الخير على الأمم. قد يقول قائل أن الإحتباس الحراري يعود للدول الصناعية التي تسبب التلوث البيئي وأن الدول اللاصناعية ومعظمها في جنوب (النصف الأخير وليس الجنوب) الكرة الأرضية، لكن الإستعداد ومعالجة الأزمات يتطلب سياسة قادرة على العمل للحد منها ومن تداعياتها ومن أثارها السلبية ! لاأعرف ماذا نستطيع أن نفعل بعد فشل ثورات الربيع العربي الذي وعدت بالمطر، لكن مازلنا نستطيع عمل الكثير ولم نفقد الأمل ودعائنا إلى الله بالمطر والخير.
الأمس واليوم وربما الأيم القادمة سقطت الأمطار في معظم البلاد، ولعلها تكون بشرى خير للوطن المظلوم الذي يباع مجانا، ويتم قمع أبنائه بوحشية غير مسبوقة. اطمئن يا ابراهيم فالحياة لا تستمر على حال.