المعاناة الاقتصادية للمواطن والانضباط المالي للحكومة في مصر

إبراهيم نوار
حجم الخط
0

الحكومة المصرية حصلت على علامة امتياز من صندوق النقد الدولي، تقديرا للإصلاحات الاقتصادية التي تمت بالتنسيق معه منذ عام 2014 حتى الآن، وهو ما ساعد على مواجهة أزمة كورونا بأقل الخسائر الاقتصادية حتى الآن؛ فتمكن الاقتصاد من تجنب الانكماش، وتحقيق نسبة نمو موجبة رغم تحديات مكافحة كورونا، وانهيار أسعار الغاز، وتوقف السياحة تقريبا، وخروج نسبة مهمة من أموال المستثمرين الأجانب. على النقيض، فإن الشرائح الاجتماعية الواسعة من المواطنين تشعر بمعاناة اقتصادية متزايدة، وترفع صوتها بالشكوى من خلال منصات رسمية وغير رسمية، لأسباب كثيرة أهمها شدة عبء الجباية، وانخفاض الدخل الحقيقي، وزحف الأجور والمعاشات ببطء وراء الارتفاع السريع في تكاليف المعيشة، وانكماش سوق العمل، والركود وسوء حال الخدمات العامة.

 الحكومة تعرف ذلك، كما يعرف أيضا صندوق النقد، الذي بادر بتقديم حزمتين ماليتين للمساعدة بقيمة 8 مليارات دولار، واحدة طارئة خاصة بتمويل احتياجات مواجهة كورونا، والثانية لمساعدة الحكومة على مواصلة برنامج “الإصلاح الاقتصادي” خشية تعثر البرنامج وضياع النتائج التي تحققت سابقا. كذلك حصلت الحكومة خلال النصف الأول من العام على أكثر من 17 مليار دولار من البنوك ومؤسسات التمويل العالمية، في صورة سندات وقروض لتعويض تخارج المستثمرين الأجانب من السوق خلال شهري اذار/مارس ونيسان/ابريل الماضيين والذي قدره صندوق النقد بحوالي 16 مليار دولار.

ونظرا لأن الصندوق يشترط على الحكومة تحصيل موارد مالية محلية مقابل كل دولار تقترضه، فإن الحكومة راحت تتوسع في إجراءات الجباية، حتى وصل الأمر إلى تهديد ملايين المواطنين بهدم مساكنهم بحجة مخالفتها لقوانين البناء، أو دفع غرامات باهظة لتقنين مكان السكن. حديث الصباح والمساء حاليا هو غرامات التصالح في البناء. وسط هذا المناخ المرتبك الذي تحاول فيه الدولة إقامة انضباطها المالي على حصيلة الجباية والاقتراض الداخلي والخارجي، يجد المواطن نفسه في موقف الضعيف الذي لا ظهر له غير الأمل في غد أفضل.

الصورة الكاملة لحالة الاقتصاد المصري تكشف وجود تفاوت حاد بين اقتصاد الحكومة واقتصاد المواطن، وبين الشرائح الاجتماعية المتضررة من السياسات الاقتصادية الحكومية، والشرائح المستفيدة. كذلك فإن الصورة تكشف وجود مخاطر وتهديدات نتيجة الفجوة بين حصيلة الجباية وبين احتياجات تمويل الانفاق العام، التي تقدرها مؤسسة موديز بما يتراوح بين 30 إلى 40 في المئة من اجمالي الناتج المحلي سنويا، وهي نسبة تتجاوز بكثير ما كانت عليه عند بدء سياسة “الإصلاح”.

الغرامات في مخالفات البناء

 

فجأة وجدت الحكومة ضالتها في قانون التصالح في مخالفات البناء الصادر عام 2019 وتعديلاته الأخيرة في العام الحالي. القانون يسري بأثر رجعي على كل المساكن غير المرخص بها، أو المخالفة لشروط الترخيص، أو المخالفة للرسومات الهندسية الواردة في الترخيص أو المواصفات الإنشائية السارية. ويسمح القانون بالتصالح بين الدولة، صاحب الحق في الترخيص، وبين المواطن مالك المسكن. ومن المتوقع ألا يتوقف الأمر عند ذلك الحد، إذ تم التوجيه بحصر أملاك الدولة في المحافظات، واستخدام تجربة “حي الأسمرات” في القاهرة الجديدة نموذجا لإصلاح أوضاع العشوائيات المقامة على أملاك الدولة. في تجربة الأسمرات، تم نقل سكان عدد من الأحياء العشوائية المقامة على أراضي الدولة، منها مثلث ماسبيرو على كورنيش النيل، إلى أحياء جديدة، مع فتح أراضي الدولة لمشروعات استثمارية تقدم نموذجا اكثر حضارية، وتدر دخلا أعلى.

الأزمة الحالية الناجمة عن قانون التصالح لا تتعلق بالقانون نفسه، ولكن بالرسوم الباهظة والإجراءات الطويلة والمعقدة والمكلفة للمستندات الضروري إرفاقها بطلب التصالح. وليست هناك تقديرات نهائية حتى الآن لحصيلة غرامات التصالح، لكنها يمكن أن تصل إلى 30 مليار جنيه على مدى 3 سنوات بمتوسط 10 مليارات جنيه سنويا، وتم فعلا جمع ما يقرب من 7 مليارات جنيه، منذ تم فتح باب التصالح حتى الآن، حسب التقديرات الأولية لوزارة التنمية المحلية.

قانون غرامات مخالفات البناء سيترك تأثيرا سلبيا على الانفاق الاستهلاكي، وهو ما يمكن أن يعمق تأثير الركود الاقتصادي من أسفل إلى أعلى، خصوصا مع صدور قرار إداري بوقف إصدار التراخيص الجديدة للبناء لمدة 6 أشهر. وقد أدى هذا القرار إلى حال من الشلل في سوق البناء بشكل عام، وهو ما يعني أن عشرات الآلاف من العمال المؤقتين في هذا القطاع سيخسرون فرص كسب قوتهم وإطعام أسرهم، إلا إذا قدمت لهم الحكومة المساندة المالية الضرورية، كما ستتأثر سلبا صناعات إنتاج الطوب والأسمنت وحديد التسليح والأخشاب والسيراميك والزجاج، وكافة الصناعات المغذية لقطاع التشييد والعاملين فيها.

مفارقات الفقر والثراء

 

على الرغم من مظاهر المعاناة الاقتصادية لشرائح كثيرة وواسعة من المصريين، فإن هناك في المقابل شرائح أخرى حققت الكثير من المكاسب، من خلال الفوز بتخصيص الأراضي للاستثمار، أو تنفيذ أعمال بالأمر المباشر، وزيادة دخل العمل، وايرادات الثروة، والتحويلات من الخارج. هذه الشرائح تضم رجال الأعمال وملاك الأراضي والعقارات والمصريين العاملين في الخارج وكبار الموظفين في أجهزة الدولة الرئيسية والعاملين في القطاعات المهنية والحرفية، بمن فيهم العاملون في المهن غير المنظمة. ومن بين المؤشرات التي تدل على وجود تفاوت في توزيع الأعباء قيمة المدخرات، وتحويلات الدخل من الخارج ومبيعات السيارات.

الودائع العائلية

تظهر قيمة الودائع العائلية ان المعاناة الاقتصادية ليست ظاهرة مطلقة، حيث أن كمية الدخل القابل للادخار لم تنخفض بشكل عام على مدار السنوات الأخيرة، وإنما زادت بمعدل يفوق معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي. وتبين إحصاءات البنك المركزي المصري أن ودائع القطاع العائلي بالعملة المحلية بلغت حوالي 2.66 تريليون جنيه في نيسان/أبريل 2020 مقارنة بحوالي 2.61 مليار جنيه نهاية اذار/مارس. بذلك تكون الودائع المصرفية بالعملة المحلية للقطاع العائلي قد ارتفعت بما يزيد عن 50 مليار جنيه، أي بنسبة 2 في المئة في شهر واحد، على الرغم من كل الآثار السلبية المرافقة لوباء كورونا المستجد.

وكانت قيمة ودائع القطاع العائلي بالعملة المحلية أقل من تريليون جنيه حتى حزيران/يوليو 2014 ثم زادت في اب/أغسطس لتسجل للمرة الأولى في التاريخ 1 تريليون جنيه. ومنذ ذلك الوقت ترتفع بشكل عام، مع وجود فائض متاح يتجه لأوعية ادخارية جديدة مرتفعة العائد مثل الشهادة البلاتينية التي أصدرها كل من بنك مصر والبنك الاهلي بفائدة 15 في المئة، وشهادة “رد الجميل” التي يصدرها بنك ناصر الاجتماعي لأصحاب المعاشات بسعر فائدة يتجاوز 15 في المئة. هذا الفائض المتاح للادخار في الودائع المصرفية ليس جديدا، وقد ظهر في صور مختلفة منها الاكتتاب في شهادات قناة السويس، ثم في شهادات البنك الأهلي وبنك مصر البلاتينية، الذي جمع ما يقرب من 150 مليار جنيه خلال أسابيع قليلة بعد الطرح. ولذلك فإن القيمة المرتفعة لرصيد الودائع العائلية في المصارف تؤكد أن هناك مبالغة في تقدير الآثار السلبية للمعاناة الاقتصادية، وإن كانت لا تعني إنكارها.

وإضافة لأصحاب الودائع توجد في مصر فئات اجتماعية تحسنت أوضاعها مع السياسة الاقتصادية الجديدة التي يطلق عليها “سياسة الإصلاح الهيكلي” مثل الفئات التي تحصل على دخلها أو نسبة كبيرة منه بالنقد الأجنبي.

تحويلات العاملين في الخارج

 

في مقابل المعاناة الاقتصادية، تمتعت أسر العاملين في الخارج بمزايا كبيرة منذ قرارات 3 تشرين الثاني/نوفمبر 2017 بشأن تعديلات السياسة النقدية، بما في ذلك سياسات أسعار الفائدة وأسعار الصرف. فقد أدى تخفيض الجنيه إلى زيادة قيمة تحويلاتهم من الخارج إلى السوق المحلية، وهو ما شجع على المزيد من التحويلات من خلال النظام المصرفي. كما ساعد ارتفاع أسعار الفائدة على زيادة العائد على مدخراتهم.

وتظهر الإحصاءات الأخيرة للبنك المركزي المصري أن تحويلات العاملين في الخارج زادت خلال الربع الأول من العام الحالي بمقدار 1.7 مليار دولار لتصل إلى 7.9 مليار دولار، أي ما يعادل 126 مليار جنيه بالعملة المحلية، وهو ما يتجاوز قيمة برنامج التحفيز الاقتصادي لمواجهة تداعيات كورونا بأكمله التي بلغت 100 مليار جنيه. وقد بلغت قيمة هذه التحويلات خلال الأشهر التسعة الأولى من السنة المالية الأخيرة 21.5 مليار دولار، مقابل 18.2 مليار دولار في الفترة المناظرة من العام السابق، بزيادة قيمتها 3.3 مليار دولار، بنسبة 18.3 في المئة، وهو ما يزيد عن تسعة أمثال معدل النمو الاقتصادي المتوقع للسنة المالية بأكملها، الذي يقدره صندوق النقد الدولي بنحو 2 في المئة. هذه التحويلات تعادل حوالي 345 مليار جنيه مصري في تسعة أشهر، وحوالي 450 مليار جنيه للسنة المالية بأكملها، وهو مبلغ ضخم يلعب دورا مهما في تمويل القطاع العائلي، سواء لاغراض الاستهلاك أو الادخار، وهو يزيد عن كل قيمة مخصصات الأجور والحوافز والمزايا لكل العاملين في الدولة التي بلغت 335 مليار جنيه في ميزانية السنة المالية الحالية، وإذا اضفنا إليه قيمة التحويلات العينية فإنه يعادل ضعف قيمة الأجور في الميزانية وما يقرب من كل احتياجات سداد فوائد الديون سنويا.

مبيعات السيارات

 

تعتبر سوق السيارات إحدى المرايا العاكسة للحالة الاقتصادية في مصر، كما إنها تعبر بشكل خاص عن واحد من أهم السلوكيات الاستهلاكية للطبقة الوسطى وشرائحها العليا على وجه الخصوص. وتظهر إحصاءات السوق أن المبيعات من سيارات الركوب زادت في الأشهر السبعة الأولى من العام الحالي بنسبة 19 في المئة، أي بمعدل يفوق تسعة أمثال معدل النمو الاقتصادي المتوقع بنهاية العام الحالي. وبلغ عدد السيارات الجديدة المباعة 74.6 ألف سيارة مقابل 62.8 ألف في الفترة المناظرة من العام الماضي. عندما ترتفع مبيعات السيارات بهذه النسبة في ظل الأزمة الراهنة فإن هذا يعني وجود شريحة ترتفع قدراتها فوق المعاناة.

وعلى هذا فإن مؤشرات الأداء الاقتصادي تظهر قدرا كبيرا من التفاوت في توزيع الأعباء في ظل الأزمة الراهنة في أسواق العالم ككل، وبالقدر الذي تعاني فيه بعض الشرائح الاجتماعية، فإن شرائح أخرى تستفيد، وهو ما يخلق حالة من الارتباك في تقييم الوضع الاقتصادي ككل، بين الذين يتوقعون الانهيار، والذين يتوقعون أن تتمكن مصر من تجاوز الأزمة الراهنة بأقل الخسائر الممكنة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية