المعاني التي تسقط منّا أرضًا فلا نتعّرف إليها، الطبيعة التي لا تعترف بالحدود، الناس التي تحيا فطرتها مع نفسها والآخرين بلا تصنيفات ولا أحكام ولا مساءلات، الأرض التي تعطي بلا قلق، الضوء الذي لا يخلف مواعيده، هي المعاني التي نتلهّى في البحث عنها في ليل هذا العالم، ونحن نعلم مسبقًا أنّا لن نجدها إّلا في أحلامنا.
قد تكون الفصول الجديدة التي تُكتب بلا عناوين، الطرقات التي لا تأبه بغاياتها، الأنهار التي لا تأبه بضفافها، وقع انهمارات المطر الأولى، هي حكايا البدايات التي يتقنها الذين لا ينتظرون شيئًا، مدفوعين بالأمل الكبير بلا سبب، أو اليأس الكبير بلا سبب أيضا… هي الحياة في أبسط معانيها ونحن نفتّش عنها في أماكنَ أُخَر!
البدايات، تلك الصباحات الأولى وكمون الوعد فيها بلا ميقات، إلا إشارات العرّافين، تلك الصفحات البيض، التي لا نجرؤ على تكرار أخطائنا فوقها، الشائعة منها وغير الشائعة، وقد بتنا نعلم أنّ الخطأ غير قابل للمحو، لكنّنا نخبّئه في جيوبنا، ونتحسّسه في المساءات، قبل النقطة الأخيرة لكل سطر جديد، والغروب الأخير لكل فصل.
بين البدايات والنهايات، نجلس نراقب ذواتنا وننتقل إلى مراقبة العالم وهو يطقطق أصابعه ضجرًا وقلقًا، وهو يحاول أن يغيّر وسادته علّه يستعيد غفوته، هو يظنّ أن اللعنة كامنة فيها، الوسادة بريئة من نوايا أصحابها، العالم يتلهّى بحكايا السراب ليؤجّل المساء الأخير. ربّما في البدء كان سرابا، وبين الوعي الأوّل والوعي الثاني يبني جدرانه وأسواره وقصوره.
كلّما علا الجدار الذي بنيناه في وجه هذا العالم، علينا أن نستعير مطرقة نيتشه ونهدمه، كي لا يغدو سورًا، فالعالم الذي نشاهده من خلال الثقوب والنوافذ يختنق بالتأطير الذي ثبتناه من الداخل. يختنق بالاجتزاء، بالجهة الواحدة، بالمنظور الواحد. الجدران التي تُرمّم لا يعوّل عليها، ولو لوّنت بأجمل الأحلام. للأحلام سقوف عالية، لكنّ مطرقة نيتشه تصل إليها أيضًا، تصل إلى كلّ مكان، وعلى الساكنين في أحلامهم حينذاك ألّا يرفعوا أيّ جدار في وجه هذا العالم، إنّما يسرحون في الطرقات، ويتوقّفون عن إحصاء خطواتهم.
الطرقات باتجاهين، تجعلنا نفتّش في أحديهما عن معنى في ما رميناه على جانبيها من أحاديث وثرثرات وأخطاء وأسواطٍ جَلَدْنا بها أنفسنا طويلًا، عن معنى في موروثات ومثاليّات أتعبنا الخضوع لها، عن وجوه فقدت كلّ ملامحها بعد أن استطعنا الابتعاد منها.
الطرقات باتجاه واحد، خطوات لا تغيب عنها الحياة، تهبنا نعمًا كثيرة ولا بأس إن سلبتنا أخرى، فمن يأبه طالما أنّ لنا في كلّ خطوة وثيقة ولادة؟ الخطوات التي تخضع فقط إلى إيقاعنا نحن بلا إسقاطات، بلا تراكمات، لأنها صورنا الآتية، صـــــورنا التي تخلّت عن كلّ هذياناتها لآخـــر المتسولين الباحثين عن أقنعة المثال.
المعاني التي تسقط منّا على الطرقات، أو تلك التي تولد فينا عند كلّ محطّة فنعتقدّ أنّنا ولدنا معها، أو تلك التي نبحث عنها، قد لا تكون جميعها إلا نحن الذين نسكن في الغبار العالق على سطح هذا العالم.
٭ أكاديمية وروائية لبنانية