القاهرة ــ «القدس العربي»: من المفترض أن يصبح المعرض العام، نافذة للتجارب التشكيلية المتميزة، نظراً لما يزخر به التشكيل المصري من معارض تكاد تتواصل طوال العام، سواء عُرضت أعمال الفنانين في غاليرهات تابعة للدولة، أو في الغاليرهات الخاصة، إلا أن المعرض منذ سنوات أصبح لا يحيد عن تكرار أعمال وأساليب فنية، لأسماء لا تمل من الركون إلى ما أنجزت، أو بمعنى أدق ما توهمت أنها أنجزته. فنجد على سبيل المثال عدة فنانين يعيدون استعراض ــ لا عرض ــ أعمالهم، ضمن عدة معارض خاصة طوال العام، أو منذ أعوام مضت، ولا يتورعون عن وضعها في المعرض العام، وبالطبع توضع أعمالهم في أماكن متميزة، حيث يُسلط عليها الضوء جيداً، وبالتالي تتناولها الصحف، وتهلل كالعادة لاسم فنان شهير، تكلست موهبته من زمن، أما أن تجد فناناً موهوباً لديه فكرة مختلفة، أو يحاول أن يخرج من كهنوت أذواق لجنة الاختيار أو التحكيم في المعرض، فالأمر يقترب من المستحيل، ورغم ذلك تأتي بعض الأعمال التي استطاعت أن تنفلت من قبضة اللجان ورؤيتهم المعدومة، لكنها بالطبع ــ وكأن هذه الأعمال على سبيل تحصيل الحاصل ــ يتم عرضها في أماكن غير متناسبة مع العمل، سواء من حيث مساحة اللوحة، أو أن تتجمّع عدة لوحات لعدة فنانين كيفما اتفق، فقد تفتق ذهن الحكماء عن وضع الأعمال التي تقترب أساليبها في مكان واحد ـ فكرة اختيار مكان العرض ليست بالأمر الهين ــ فالمحسوبية والصداقات، وما شابه من حالات الفساد لها اليد العليا في عمليات الاختيار وطريقة العرض. والدليل على ذلك يكمن في ثيمة معرض هذا العام، الذي جاء تحت عنوان «عودة للرومانسية»، وللمتلقي أن يحكم بنفسه على أغلبية الأعمال المعروضة، ويحاول اكتشاف العلاقة الغامضة بينها وبين عنوان المعرض. وسنستعرض بعض الأعمال اللافتة، التي جاءت حفظاً لماء الوجه، أو ربما جاءت المكان بالخطأ. يُقام المعرض حالياً في قصر الفنون في دار الأوبرا المصرية.
التصوير
بداية اختار الفنان عصام طه كلا من المرأة والقطة موضوعا لعمله الفني، ورغم تكرار هذه الثيمة في العديد من الأعمال، إلا أن الفنان تناول الموضوع في حس رومانتيكي، بداية من الملامح غير المكتملة، والمجموعة اللونية المسيطرة على اللوحة، مجموعة متناقضة بين درجات البنفسجي والأصفر، كما رسم طه القطة بملامح أنثوية، كما لو كانت المرأة والقطة تتشاركان الحالة نفسها، واختار لهما أجسادا مختفية التفاصيل تحت لون أصفر مسيطر، إضافة إلى أن هذا الشعور سواء بالوحدة أو الإغواء يتجمع في وجه القطة، التي تطالع المتلقي بوجهها، رغم أنها تكمن في خلفية اللوحة. الأمر أقرب إلى الإيحاء بالحالة، التي على المتلقي استقبالها والتفاعل معها، وربما المساحة اللونية التي تكاد تطغى على فكرة التجسيد تُضاعف من حالة التفاعل مع اللوحة.
وفي عمل الفنان أحمد الشافعي، نجد أن مفردات اللوحة تشغل سطحها بالكامل، فالمرأة التي تطالع وجهها في المرآة والحيوان الرابض في الأسفل وديكور المكان أشبه بالمنحوتات، هذا ما يتضح في وضعية جلوس المرأة وتكوينها الجسماني، متأثراً بالفن الفرعوني الذي يسيطر عليه التصميم الهندسي.
أما الفنان مصطفى خضر، فاختار مشهداً ريفياً موضوعا للوحته، متخذاً نهجاً تعبيراً بكثافة لونية، ولمسات سِكّين خشنة وخطوط حادة للأشجار، بخلاف تكوين باقي المشهد الذي ظهرت فيه خطوط منحنية أكثر، حيث يسيطر اللون البنفسجي ودرجاته على اللوحة بالكامل، ليوحي بانتهاء يوم من العمل الشاق. وهذا ما يوضح المفارقة الكامنة في اللوحة ما بين المشهد الكامل بما يوحي بحالة من الهدوء وراحة البال، لكن من خلال التقنية نكتشف ما يعانيه الفلاح من حياة ليست كما تبدو من بعيد. وربما يسخر الفنان من أصحاب عيون «كروت البوستال» التي تصور الحياة الجميلة والرائعة من مقام «محلاها عيشة الفلاح».
من ناحية أخرى نلمح الحس الشعبي في عمل كل من الفنانتين إيمان سعد ومها جورج، وكأن الأمر هنا مرتهن بالزمن، كمحاولة لتجسيد لحظات مضت ولن تعود. فكل من العملين يسيطر عليهما الحِس العفوي، سواء في الخطوط والألوان وباقي تفاصيل اللوحة، وإن كانت إيمان سعد قد اختارت أجواء القرية، فمها جورج اختارت مظاهر الفرح الطفولي لأطفال المدينة.
ومن فرح أطفال المدن إلى نساء المدينة، المتوحدات والمكتفيات بذواتهن في مواجهة العالم، وهنا يأتي عمل الفنانة أحلام فكري، حيث اللون الأزرق ودرجاته المتباينة، ولا مفر من غيوم تملأ السماء، وهي في الأصل سحب غائمة تحملها روح وعقل شخصية اللوحة، تلك المرأة العاقدة ذراعيها في وجه المتلقي، التي تعطي العالم ظهرها، رغم الشرفة المفتوحة على اتساعها، هذا الفراغ لا يهمها في شيء، وهذه الذراع المغلقة لا تُبدي أي بادرة أمل في حالة من تواصل، أنوثة تحتفظ بذاتها في حالة انتظار دائم.
ومن التوحد مع الذات، إلى الفزع من المدينة، كما في لوحة الفنان أيمن سعيد، الذي استخدم خامة الخشب المحروق، ومن خلاله تبدو عينين محدقتين في وجه طفل يطالع المتلقي، وكأنه يُخبره الحقيقة، أو يُشهده على ما حدث، وكذا بعض الشخوص والمنازل المحترقة، وقد طالهم هذا الخراب من كل جانب.
النحت
يجسد عمل الفنان حسام السيد حالة من حالات الوجد الصوفي، من خلال رقصة الدراويش الشهيرة، لم يمتثل الفنان للصورة المعهودة لأصحاب هذه الرقصة، بل جاء العمل في شكل تمثال نصفي يمثل حركة الراقص الدائرية والمستمرة، هذه الحركة التي لا تنتهي جاءت في شكل من أشكال «المزج» كما في المونتاج السينمائي، لتوحي بداية بمرور زمن، وكذلك بتداخل حركة الراقص واستمرارها، فهو لا ينفك يدور في الدائرة المغلقة التي ارتضاها، وهي الرمز المعروف لدى الصوفية.
الفوتوغرافيا
حالة العشق هذه تجسدها لقطة الفنان محمود خليفة، ولكن في صورة غير مباشرة، توحي أكثر من مجرد التجسيد، وهو أمر يُحسب لمصور فوتوغرافي، وقد اختار لقطة لكأسين في إضاءة خافتة، كأنهما يتناجيان في غفلة من الجميع، واللقطة تعبر عن حالة لم تنشأ من فراغ، فما كان سوف يتغير حتماً بعدها، وللمتلقي أن يتخيل العديد من الحكايات والعلاقات التي توحي حالة الكأسين المتجاورين، الأمر مرهون بدلالة الحالة، بدون مباشرة الصورة.
التجهيز في الفراغ
وأخيراً يأتي عمل الفنانة أماني موسى ليعود بالزمن إلى عام 1968، متخذة من صندوق البريد موضوعاً للعمل، فكرة الرسائل والكتابة بخط اليد وانتظار وصول الخطاب، وكذلك انتظار الرد. هذا الإيقاع المنسي تماماً الآن، فالأمر مرتبط أكثر بإيقاع حياة الناس وقتها، بخلاف العالم الافتراضي، ووسائل التواصل الحديثة، والسرعة التي لازمها النسيان. كذلك تبدو فكرة الاحتفاظ بالتذكارات وبالتالي أصحابها. أن تتحول حيوات الناس إلى حكايات من خلال رسائل قديمة اصفرّت أوراقها، التي في الغالب رحل أو سيرحل أصحابها، لكنهم سيعيشون حيواتهم من خلال الآخرين، فلا موت لمن كَتَب.