من الهزيمة يولد الانتصار، ولا توجد مسيرة من دون عقبات. ومسيرة التاريخ ليست استثناء. لهذا كان لافتا ان تحيي فرنسا مؤخرا معركة اشتهرت، ليس بفشلها، على الرغم من أنها فشلت فعلا (على خلاف شهرة هزيمة واترلو، التي وصفها بعض المؤرخين بالهزيمة المفصلية)، لكن معركة « مونكورنيه » اشتهرت بشخصية من قادها، وهو الكولونيل شارل ديغول، الذي لم يصل بعد إلى رتبة الجنرال حينها.
في 17 مايو 1940، واجهت الكتيبة الفرنسية المدرعة رقم 4، كتيبة « بانزر» الألمانية العاشرة الشهيرة، فلم تأل جهدا في محاولة ردعها، عبثا. لكن ما ليس عبثيا هو مسار قائد الكتيبة الذي جسد مقولة «هكذا يصنع الرجال» فبات ديغول رجل 17 مايو 1940 قبل أن يصبح بعد شهر ويوم من ذلك التاريخ «رجل الـ18 يونيو» نسبة طبعا الى نداء المقاومة الذي أطلقه ديغول من بي بي سي (مشكورة هي وونستون شرشل) التي لا تزال تحتضن في مقرها في « بورت لاند بلايس» نصبا تذكاريا للحدث.
كيف نكتب التاريخ؟ هذا هو السؤال المطروح في كل ساعة ودقيقة، لأن مسار القرار السياسي مرتبط عضويا بالكيفية التي نكتب بها التاريخ
ليس غرض مقال اليوم الانغماس في تفاصيل التاريخ، لكن الانطلاق من فكرة مثيرة للاهتمام أخذت تروجها الذاكرة التاريخية الجماعية بقيادة الرئيس الفرنسي: الاعتبار من أحداث تمر عليها ذاكرتنا مرور الكرام، بل المؤرخون عندما تستضيفهم وسائل الإعلام.
وهنا نقطة أساسية، تعيدنا إلى إشكالية كان قد طرحها البروفيسور Paul Veyne العلامة في التاريخانيات عندما عنون كتابا شهيرا له بـ«كيف نكتب التاريخ». كيف نكتب التاريخ فعلا، هذا هو السؤال المطروح في كل ساعة ودقيقة، لأن مسار القرار السياسي مرتبط عضويا بالكيفية التي نكتب بها التاريخ. يمكن قراءة هذا الحدث في ثلاثة رموز على الأقل:
*رمز موجه للذاكرة الجماعية عبر دعوة إلى إعادة ترتيب الأحداث، واختيار النسق الذي سيطور هذه الصياغة الجديدة.
*رمز موجه لطريقة فهم علاقة التاريخ بالزمن، ونعلم درجة تأثر الرئيس الفرنسي بأعمال الفيلسوف بول ريكور، الذي أفرد مساحة واسعة جدا من كتاباته لتنظير علاقة الإنسان بالزمن.
*رمز موجه للجمهور، مستغلا أول رحلة رئاسية منفصلة عن أزمة الكوفيد 19، لتناول الأزمة من زاوية غير مباشرة، بالتلميح إلى أن الانتصار في المعركة مكون من سلسلة من العقبات قد ترقى، نعم ترقى وليس تنحدر، إلى الفشل النسبي.
أجل، فإذا نظرنا إلى الفشل من باب أوسع، باب الماضي والحاضر والمستقبل، لا يمثل الفشل سوى مرحلة وليس خطا مستمرا، يمثل فترة وليس حقبة، يمثل مدة وليس زمنا.
ومعنى ذلك أن الفشل في حد ذاته ليس دافعا، وإذا فهمناه كذلك، فليس عقبة.. لكن من الصعب أن نفهمه كذلك. هنا يلاحقنا الدرس الفلسفي والأخلاقي كما نلاحقه، مفصولا عن الإطار التاريخي الميداني، الذي يتنزل فيه ليرقى، هو الآخر، ومن دون مغالاة ولا تضخيم، إلى مستوى فلسفة حياة.
أعجبتني هذه الفكرة، التي ليست جديدة، فكرة إعادة الاعتبار لحدث غيبه ليس التاريخ، وإنما طريقة كتابة التاريخ وروايته، وهنا تأتي المناسبة للعودة إلى مصطلح صار استعماله موضة: «الرواية الوطنية»، تلك العبارة التي أصبحت مثار أخذ ورد، لم نعد قادرين على التعريف بها تعريفا واضح المعالم، لأننا فقدنا في هذا التعريف البوصلة التي نحتاجها وتحتاجها أساسا الأجيال الصاعدة: أن النجاح لا يأتي من دون فشل.
و لنتفهم ذلك، المعركة مستمرة.
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي
مقال ذو روح خفيف ولطيف وظريف.ياسيدي أتفق مع حضرتك أنّ طريقة كتابة التاريخ وروايته هي الفكرة الجيدة لإعادة الاعتبار
لحدث مغيّب…إنما لكتابة الحدث التاريخيّ شرطــان أساسيان : الأوّل : الوثيقة ؛ التي أسمّيها روح المؤرخ قبل الحدث.وبها يَحيى المـــؤرخ وبها يُحي التاريخ. الثاني : البوصلة التي يهتدي بها المؤرخ نحو الحدث كهدف.ومنشأ هذه البوصلة : روح الأمـــة. لقد شاهدت عشرات الأفلام الوثائقيّة عن الحرب العالميّة الثانيّة…نعم ألمانيا قد خسرت الحـرب. لكنها لم تخسر البوصلة ؛ لأنّ روح الأمة الألمانيّة بقيّت بعيدة عن ( الموت ) فهي مثل ملكة حشرة الأرَضَة القابعة في الأعماق إنْ لم تصلها لن تنتهي أسراب الأرَضَة.الملكة الألمانيّة بقيّـت بسلام.
أما قولك : { فإذا نظرنا إلى الفشل من باب أوسع، باب الماضي والحاضر والمستقبل، لا يمثل الفشل سوى مرحلة وليس خطا مستمرا، يمثل فترة وليس حقبة، يمثل مدة وليس زمنا }.فلا أتفـــق معه.ليس في التاريخ ( فشل ) بل هناك نجاح وهناك محاولة للنجاح.
واستمرار محاولات النجاح ( أعظـــم ) من النجاح لمرّة واحدة.أمريكا نجحت في احتلال العراق لكنها خسرت محاولات النجاح…إنّ تهاوي مجد أمريكا الآن ليس بسبب احتقان كورونا ومقتل جورج فلويد…فهذه أسباب تأجيج لكنها تراكمات رئاسات أمريكا السابقة الغبيّة ؛ قد ظهرت الآن جليـّة…لأنّ الحدث التاريخيّ ؛ يحتاج ( للتخمير) حتى ينضـــج ويظهر بلسان ذي لهب.فهولا يشبه حدثًا سياسيًا مرتبطًا بتأجيج الإعلام ولعبة السلطة القصيرة السبب.
لهذا الحدث التاريخيّ لا يوشل ويضمحل وينسى ؛ على عكس الحدث السياسيّ ؛ السريع اللهــــب مع الكثير من الدخان ؛ الذي سيتبدد ويتلاشى.وأفيدك لكونك فرنسيًا ؛ أنّ فرنسا لا تزال تعاني من احتـلال ألمانيا لباريس في الحرب العالميّة الثانيّة…ورغم كلّ مظاهر إعادة الحياة ؛ بعد انتهاء الحرب…ظلّـت روح فرنسا ( مكسورة ) والمظاهرليست أكثرمن ديكور.ربما اهتمام باريـس بالأزياء من هذا الباب… إنّ من حسن حظ ألمانيا يومذاك ؛ أنّ برليـن قد احتلت.لكنهم أبدلوها بعاصمة مؤقتة هي بــون.التي قد استوعبت الانكسارحتى تمت عودة الـرّوح الجديدة ؛ فعادت برلين (1990) عاصمة للمجــد الألمانيّ.
النتيجة العمليّة المعركة مستمرّة ؛ فرنسا نجحت في الحرب لكن ألمانيا تفوّقت عليها بمحاولات النجاح. أذكر جيدًا أيام زمان قد دخلت دورة للغة الفرنسيّة ببغـــداد…وكان الأستاذ الفرنسيّ غيــر محترف كثيرًا بالتدريس.سألته هل درسّت سابقًا ؟ أجابني : أنا لست مدرسًا بل مطلوب للخدمة العسكريّة في بلادي… وأمامي خياروخيار: الأوّل : أنّ أخدم جنديًا في الجيش ؛ وهذا ما لا أريده.والثاني : أنْ أخـــدم بتدريس اللغة الفرنسيّة للأجانب ماوراء البحار كتعويض عن الخدمة العسكريّة…ساعتها أدركت أنّ روح ألمانيا المحتلة لباريس في الحرب العالميّة الثانيّة ؛ لا تزال مسيطرة على فرنسا بعمق.وربما هي صنـو روح الطلاب التي قد أسقطت ديغول في 1968 بثورة الصيـف.وحتى مقال جديد : خفيف وظريف ولطيف. واختلاف الرأي السليم من التجذيف ؛ لا يفسد للودّ قضيّة ولا حُسن موقف.