لم يمر، منذ الحرب العالمية الثانية، على المجتمع الأمريكي أزمة عاصفة بحجم ما يقع الآن. فلا حرب فيتنام ولا حرب كوريا ولا حروب الشرق الأوسط في العراق وأفغانستان جمعت أكثر من أزمة في وقت واحد كما هو الحال بالنسبة للجائحة من جهة وبالنسبة للحراك الأمريكي الراهن ضد العنصرية. أن الاعتقاد بأن كل هذا لن يترك نتائج مـؤثرة على واقع الولايات المتحدة ليس في محله. الولايات المتحدة تتغير والانتخابات القادمة ستكون مفصلية، ولولا توفر كوابح مرتبطة بالحقوق الدستورية وحرية التعبير لكانت الولايات المتحدة ستتعرض لما هو أسوأ مما رأينا للآن. من حسن حظ الأمريكيين انهم يملكون نظاما تأسس على التداول على السلطة، كما ولديهم حريات يصعب مصادرتها بالقوة والعنف. ذلك كان ولازال حصن الأمريكيين الأهم.
إن أحد الأسباب المؤثرة على الوضع الأمريكي كما يتبلور اليوم أن العالم يمر بواحدة من أكبر فترات التغير المتأثرة بأطروحات جديدة، فهناك أفكار تسقط وأخرى في طور النشوء. هذه الأفكار بل والكتابات والكتب والأطروحات التي تتحول لأفكار شعبية تطرح رؤى جديدة لدور الدولة في تأمين العدالة الإنسانية والاجتماعية ولنمط من الرأسمالية بوجه إنساني. لقد ساهمت جائحة كورونا ثم عسكرة البوليس بتسريع وتكثيف نضوج هذه الأفكار على المستوى العالمي. إن الرأسمالية كما عرفناها في العقود الماضية وخاصة منذ ثورة ريغان وتاتشر في ثمانينيات القرن العشرين هي ذاتها التي تهتز اليوم لصالح رأسمالية معدلة ومختلفة تؤمن بالمنافسة لكنها منحازة بنفس الوقت للعدالة والإنصاف.
وبينما تقترب الولايات المتحدة من الانتخابات المفصلية في تشرين الثاني- نوفمبر إلا أنها تعيش انقساما كبيرا بين مدرستين. الأولى هي مدرسة الأمر الراهن حيث السيطرة لليمين ولسياسات الرئيس ترامب ونظرته الاقتصادية ( تخفيف الضرائب على الأغنياء) والاعتماد عليهم في إعادة بناء الاقتصاد. أما المدرسة الثانية فهي مدرسة أكثر راديكالية تسعى لتغيير أكبر في النهج والأسلوب والأولويات. هذه المدرسة تسعى لضرائب أعلى على الثروة، ولدور أكبر للدولة في ضمان الحد الأدنى للأجور وفي ضمان العدالة والتصدي للتفرقة، كما تؤمن بضرورة استعادة دور النقابات العمالية بكل أبعادها.
لهذا فالديمقراطية الأمريكية كما نراها اليوم تعاني من مخاطر حقيقية، ويجب عدم الاستخفاف بهذه المخاطر، فإدارة الرئيس ترامب وحلفائه في اليمين سعت لتقليص هذه الديمقراطية والصلاحيات الدستورية للمواطنين. ويمكن الاستنتاج أن الهبة الشعبية الأمريكية تنطلق من الفرضية التالية: إن السكوت عن انتهاكات تمس الحقوق والدستور ما هي إلا بداية لانتهاكات أشمل، لهذا فإن السماح بتآكل الحريات في ظل لغة للخطاب معادية لهذه الحريات مقدمة لسقوطها رهينة التفرد.
لا حرب فيتنام ولا حرب كوريا ولا حروب الشرق الأوسط في العراق وأفغانستان جمعت أكثر من أزمة في وقت واحد كما هو الحال بالنسبة للجائحة من جهة وبالنسبة للحراك الأمريكي الراهن ضد العنصرية
وينطلق الحراك الراهن من تجربة ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية وتحديدا في بداية ثلاثينيات القرن العشرين. في تلك الفترة لم يتحرك الديمقراطيون الألمان لإنقاذ ألمانيا الديمقراطية من صعود هتلر وقراراته المتسرعة والتعسفية. وقد أدى تأخر القوى الديمقراطية في التحرك لإيقاف تدهور الديمقراطية الألمانية لتمكين النازية وسيطرتها المطلقة على المؤسسات والأحزاب والمجتمع.
ويمثل الرئيس الأمريكي ومعه الحزب الجمهوري امتدادا طبيعيا للمدارس الرأسمالية التي أنتجت اقتصاد الاحتكار الراهن والذي يرتبط بسيطرة أقلية تزداد اغتناء وأغلبية تزداد فقرا وعزلة. إن اقتصاد الأقلية في ظل تآكل الطبقة الوسطى أضعف التنافسية وخلق من كل شيء سلعة للبيع والشراء. إن سعي الرئيس ترامب وفريقه وتياره للحفاظ على الوضع الراهن عبر مزيد من تقسيم المجتمع الأمريكي بين الأسود والأبيض وبين الليبرالي والمحافظ وبين الطبقة العليا والطبقات الشعبية قد أوصل الولايات المتحدة للحظة التوتر الراهنة.
لكن السبب الأساسي في عدم مقدرة الأقلية المتنفذة الملتفة حول الحزب الجمهوري في الحفاظ على نفوذها وسيطرتها مرتبط بطبيعة الوعي الجديد والمعرفة التي تنتشر في الولايات المتحدة. هذا الوعي يتعزز بفضل حرية التعبير ودور الصحف والتلفزات غير الحكومية ودور المنظمات الشبابية والجماعات المدنية الحقوقية. لكن هذا الوعي مرتبط بأخطاء الرئيس ترامب وبسوء إدارته لأزمة الجائحة وبطبيعة خطابه الاستفزازي تجاه الحراك الشعبي ومقتل جورج فلويد. إن الوعي الاجتماعي السياسي لمشكلة العنصرية ولطبيعة الاقتصاد المنحاز أعطى الأمريكيين زخما جديدا باتجاه تغير واقعهم.
إن الرأسمالية الأمريكية في ازمة، لكنها ليست أزمة أبدية. فالاقتصاد الجديد والنظام الجديد الأمريكي الذي سيخلف النظام الراهن في ظل المعادلة الدستورية سوف يختلف عن الذي عرفناه في العقود الأربعة الاخيرة. ان عودة الدولة ودورها لضمان توازن المجتمع هو مشروع اليسار الأمريكي، وهو التيار الأهم الآن في الشارع، وهو الذي يحمل رؤية أمريكية للرأسمالية بوجه إنساني.
لا يوجد ما يضمن تطور الوضع الأمريكي نحو استقرار جديد، فالسياق العام الذي شرحناه يزداد عمقا وخبرة، والسعي للتغيير أصبح مطلبا يزداد رسوخا، لكن بنفس الوقت هناك صراع حقيقي بين القوى السياسية وبين اليمين واليسار وبين الفلسفات والرؤى والمصالح ينعكس على المؤسسات وفي الدولة وخارج الدولة.
فقد يقرر اليمين خوض مواجهة طويلة تجعل من إعادة ترتيب البيت الأمريكي أكثر صعوبة. وقد لا يقبل أنصار ترامب بهزيمته في الانتخابات، ولا يوجد ما يمنع أن يسعى الرئيس ترامب لتأجيل الانتخابات أو لافتعال أزمات. لهذا فالمعضلة الأمريكية قد تطول. فبينما الشعب يريد تغير النظام، إلا ان النظام يريد تغييب الشعب. ستعاني الولايات المتحدة إلى أن تتضح صورة المرحلة.
استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت