أخيراً تم العثور على المتهم الرئيسي بموت حوالي 20 ألف فلسطيني، 60 في المئة منهم من المدنيين وثلثهم من الأطفال، في هذه الحرب. “لو سمح المجتمع الدولي لإسرائيل بالرد بشكل مناسب على هجمات حماس في جولات سابقة لما تعرضت حياة الكثيرين، بالأساس حياة الفلسطينيين، لكل هذا”، قال آفي غيرفنكل (“هآرتس”، 26/12) بثقة علمية تقريباً. لقد تم إغلاق الطريق كما يبدو أمام غيرفنكل للوصول إلى خلايا الذاكرة التي محيت من الأرشيف العام. عملية “الجرف الصامد” بدأت في 8 تموز 2014. ورغم الضغوط الدولية، بما في ذلك طلب الرئيس الأمريكي باراك أوباما في 27 تموز بوقف إطلاق النار، فإنها استمرت حتى 26 آب. بعد خمس سنوات، وجد تفسير أفضل مما عرضه غيرفنكل. فقد أوضح نتنياهو بشكل صريح سبب حوية إبقاء حماس في الحكم. “من يريد إفشال إقامة الدولة الفلسطينية فعليه تأييد تقوية حماس وتحويل الأموال إليها… هذا جزء من الاستراتيجية، الفصل بين الفلسطينيين في غزة والفلسطينيين في يهودا والسامرة”، قال نتنياهو في جلسة مركز الليكود في آذار 2019.
إلى هنا فيما يتعلق بالذاكرة. وفي توجيه إصبع الاتهام للمجتمع الدولي، ثمة هدف لغيرفنكل يرمي لتحقيقه، لكنه مخطئ. “المنتقدون والواعظون المختلفون يجب أن تقول لهم أمرين: الأول، ساعدتم بما فيه الكفاية. والثاني، الجيش الإسرائيلي هو الأكثر أخلاقية في العالم وبفرق كبير”، قال غيرفنكل. وقد أرفق أقواله ببيانات تلائم بحثاً جدياً وعميقاً. وقال مثلاً: “الأمريكيون قتلوا في العراق عشرة أضعاف من المدنيين مقارنة مع الجنود، وليس ضعفاً ونصف ضعف فقط”. وبصفته المتحدث بلسان الجيش الإسرائيلي وليس منظمة حقوق إنسان أو مجلس طلاب في جامعة هارفارد، فقد نشر في 2012 اقتباساً لأقوال الكولونيل البريطاني ريتشارد كامب، الذي كان قائد القوات البريطانية في أفغانستان”، نشر. وحسب تقديرات الأمم المتحدة، فإن النسبة بين المدنيين والجنود الذين قتلوا في الحرب في أفغانستان هي 1 :3، أي 3 مدنيين مقابل كل جندي أفغاني. وكانت النسبة في العراق أعلى، 1: 4.
لكن رغم عرض البيانات المزيفة هذه، التي تبذل جهداً كبيراً لتثبت بأن الجيش الإسرائيلي هو الأكثر أخلاقية في العالم مقارنة مع الجيوش الأخرى، لا سيما الجيش الأمريكي، إلا أن غيرفنكل ألقى هذه البيانات في القمامة على الفور؛ فهي ليست ذات صلة. وقال إن المهم هو “التناسب الذي يتم قياسه بالنسبة بين الفائدة الأمنية المأمولة للهجوم، والضرر المتوقع لمدنيي العدو. الفائدة المأمولة في هجمات الجيش الإسرائيلي جاءت لمنع العدو من تحقيق نواياه المعلنة: تدمير إسرائيل”. ولكن هنا بالضبط تكمن الخدعة اللفظية في هذا الادعاء الكاذب، لأن السؤال ليس من أجل ماذا نحارب، بل كيف نحارب. كم هو عدد الأطفال والنساء المسموح قتلهم باسم هذا التناسب؟ كم من المسموح أن نُجوّع؟ أي عدد مسموح لنا منع مياه الشرب الصالحة أو الأدوية التي تنقذ الحياة؟ هل نحتاج إلى إبادة جميع سكان غزة لمنع تدمير إسرائيل؟
الفيلسوف مايكل فولتسار، الذي كتب أحد الكتب الأساسية في نظرية أخلاق الحرب، “الحروب العادلة وغير العادلة”، قال إن “المسلمة الموجودة في صلب نظرية الحرب العادلة تقول إن قوانين الحرب لا يمكن ألا تسمح بإدارة حرب عادلة”. ولكن لا أحد يختلف حول عدالة الحرب في غزة. النقاش هو: متى ستصبح غير عادلة، لأنها تعتبر كل مواطني العدو أشخاصاً يستحقون الموت.
هناك شيء صغير عن المقارنات: وسام الجيش الأكثر أخلاقية في العالم ليس شهادة، سواء على أخلاقه المطلقة أو على استخدامه لوسائل أقل عنفاً أو غياب الوحشية، وإن استخدام المقارنة هو ضعف أخلاقي خطير، لأنه يعطي إذناً أكبر من اللازم لاستخدام زائد للقوة التدميرية والقتل، شريطة ألا يتجاوز مع فعلته جيوشاً أخرى من أجل الاحتفاظ بالوسام.
تسفي برئيل
هآرتس 27/12/2023