بيروت- “القدس العربي”:
مع تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية في لبنان، ارتفعت أرقام الهجرة بشكل ملحوظ إلى الخارج، وخصوصاً من جيل الشباب بحثاً عن مستقبل واعد وعن استقرار لم يعد متوفراً في بلد تعصف به الأزمات والمفاجآت من حين إلى آخر، وتقتل الأحلام لا بل تعيد أبناءه سنوات إلى الوراء كما حصل بعد انفجار المرفأ في بيروت.
واللافت أن الهجرة طالت هذه المرة فئة لم تستسلم سابقاً لليأس، وفضّلت أن تبقى في أرضها محافظة على عنادها الإيجابي.
غير أن من سبق وهاجروا من لبنان لمعت أسماؤهم ونجحوا في مسيرتهم الريادية، وبينهم الدكتور جيلبير المجبّر ابن جبيل مدينة الحرف الذي لم تكن حياته على ما يُرام، شأنه شأن أغلب شباب هذه الوطن وأبنائه، حيث الفرص ممنوعة سوى عن المحسوبيات، وحيث الطموح تقتله ممارسات الإدارات المحلية الظالمة.
أرقام الهجرة من لبنان ترتفع بشكل ملحوظ حتى في صفوف من رفضوا الاستسلام
هاجر جيلبير واغترب، عانى الجوع والتشرُّد، ورغم أنه ترك الوطن الذي عذّبه وأهان شبابه، لكنه عاد إليه من حيث هو في فرنسا محققاً نقلة نوعية من بوابة الخدمات والعمل الإنساني، حيث أسّس مؤسسته الاجتماعية التي حملت اسمه “مؤسسة الدكتور جيلبير المجبر الإجتماعية” منذ أواخر التسعينات، والتي استطاعت حتى اليوم إثبات قوتها في صنع المستحيل، كما عاد من بوابة المواقف السياسية من دون تعصّب لقضية حزبية أو فئوية.
ظروف قاتلة للأحلام
وقد كان لـ”القدس العربي” هذا الحوار مع جيلبير المجبّر:
* تزداد حالات الهجرة في لبنان، متى قررت مغادرة البلاد ولماذا؟
– غادرتُ لبنان منذ عشرات السنوات، بحثاً عن الأمان المادي والمعيشي، بعدما بتنا غرباء في وطننا، نشحذ كسرة الخبز فلا نجدها، وأرى عائلتي تتضرّع خوفاً على أيامنا المقبلة وتجهد من أجل مساعدتنا وتربيتنا في ظل أيام سوداء مرّت على لبنان ولا زلنا تحت وطأتها اليوم، وهنا أسفي على الشباب في أيامنا وكل زمن، فلا زالت المخاوف على حالها، والظروف قاتمة قاتلة للأحلام والطموحات والحياة دونها استحالة حتى في تأمين الطعام.
* كيف تترك الطاقات اللبنانية بصماتها في الخارج وما هي الخسائر في الأدمغة التي يتكبّدها لبنان؟
– بالطبع هناك خسائر على لبنان، طالما العقول البشرية لديه هاجرت لتبني البلدان التي احتضنتها، وبقي بلدنا دون تطور لا في نموّه ولا قطاعاته بفعل الادارات العوجاء والسياسات الظالمة. أمّا عن الطاقات اللبنانية في الخارج، فقد أبدعت في كل المجالات، لأن هناك من احتضنها وآمن بها ومنحها الأمان الوظيفي والمادي والحياتي، حيث باتت بصماتنا موجودة في أغلب دول العالم.
* ما هي المشاريع التي استثمرت فيها خارج لبنان وكيف توظّفها لخدمة اللبنانيين؟
– لقد وظّفنا خدماتنا الخارجية في خدمة أهلنا في الداخل اللبناني بشكل كبير منذ التسعينات، وقدّمنا للناس الخدمات على اختلافها من منح تعليمية لآلاف الطلاب لاستكمال مسيرتهم التعليمية، إلى الدواء بمبالغ ضخمة لالاف العائلات، ومثلهم في تقديم المساعدات الغذائية والمادية، فضلاً عن شحن الاسعافات المتطورة والمعدات الطبية وسيارات الإطفاء لمؤسسة الدفاع المدني وجمعيات وبلديات، وترميم عشرات المساجد والكنائس، ورعاية النشاطات الثقافية والرياضية، واستصلاح أراض وانشاء حدائق عامة وملاعب رياضية لجهات عدة.
وخلال فترة كورونا هذه تحديداً، كان للبنان من قبلنا مساعدات ضخمة تخطّت طاقة الدولة بأكملها، خصوصاً لناحية التعقيم الكامل والغذاء والطعام، وكله بفضل الله وحده وفريق العمل الكبير في لبنان الذي كان لا يهدأ وبعده، في مساعدة أهلنا المحتاجين وما أكثرهم.
احتلال الداخل
* كنت من المبادرين الأوائل للوقوف إلى جانب المحتجين في لبنان. كيف تصف الحالة التي وصلت إليها البلاد ومَن المسؤول عن هذه الأزمات الاقتصادية والمالية؟
– أبكي بحسرة على أحوال بلدي وأوضاع الناس، لو عرضنا كل ما شاهدناه من داخل البيوت التي دخلناها وهي بالآلاف، لأبكينا العالم كله معنا، العائلات اللبنانية ودون مبالغة وصلت لمرحلة الجوع، وحده لطف الله من يرأف بها. أمّا المسؤولية فهي على عاتق هذه السلطة الحاكمة والتي لطالما وصفناه بـ”احتلال الداخل”، التي نهبت البلد وذلّت الناس وسرقت الموارد والخيرات، ولا زالت مستمرة في ذات العقلية المجرمة بحق البلاد والعباد، ومستعدة لقتل كل من يقف بوجهها، مستخدمة الأجهزة الأمنية في تصرّف عقليتها المريضة والمنحطة والحقيرة والخطيرة.
* مع ارتفاع سعر صرف الدولار بات اللبنانيون يعانون من تراجع القدرة الشرائية وأصبح أهالي الطلاب الذين يتعلّمون في الخارج عاجزين عن تحويل الأموال لأولادهم هل لديكم كرجال أعمال في الخارج اقتراحات لمساعدة لبنان المقيم؟
– للأسف سمعة لبنان المالية كلها باتت على المحك، ونحن كرجال أعمال أكثر من عانينا من أزمة المصارف اللبنانية التي نعتبرها مفتعلة حتماً لسرقة أرزاق اللبنانيين، بعدما تآمرت تلك المصارف مع السلطة الحاكمة وسرقت أموال المودعين وجعلتنا نعجز عن سحب حتى مئة دولار بشكل آمن. نقف مع الطلاب في الخارج الذين يعانون من الويلات، وأنا هنا في فرنسا ساهمت في دعم العشرات منهم والوقوف على احتياجاتهم، وحبّذا لو يفعل ذلك كل رجل أعمال لبناني متمكّن في بلاد الاغتراب، فهؤلاء طلاب لا قدرة لهم على فعل شيء، أتوا ليتعلّموا فوجدوا انفسهم مضطرين للصرف من جامعاتهم وطردهم وكذلك من أماكن السكن بسبب تمنّع الدولة الظالمة عن إرسال أموال ذويهم اليهم، فاللبناني مغبون من دولته داخل وخارج حدود الوطن.
خلاص لبنان
*كرجل أعمال لبناني في الخارج كيف تنظر إلى دور لبنان في المنطقة بعد انفجار مرفأ بيروت وكيف السبيل لعودة لبنان سويسرا الشرق؟
– صورة لبنان بشكل عام باتت سلبية، انفجار المرفأ جعل الأمور واضحة تماماً، فهناك احتلال داخلي وجب التخلّص منه، فمن يحكمنا قتلنا علناً، ومنع التحقيق الفعلي والجدي، وفوق كل هذا عندما نزل الشباب إلى الساحات بعد الانفجار للتعبير عن غضبهم واجتهم أجهزة الدولة القمعية بالقتل والتنكيل، لذا لا خلاص للبنان لا اليوم ولا بعد سنين، سوى في إنتاج واقع سياسي مغاير ونفضة سياسية وإدارية كاملة.
كلمة أخيرة.. لبنان لا ينقصة شيء، فيه عقول مبدعة وطاقات رهيبة وحتى إمكانات مادية ضخمة، وموقع جغرافي لطالما شكّل نقطة قوة للبنان، لكنّ هناك طغمة سياسية ظالمة تحكمنا، أرست ثقافتها السوداء بالقوة علينا، خرجت بعد حربٍ لسنوات معلنة انتصارها على الوطن والشعب، وتقاسمت على جثث الناس خيرات وموارد هذا البلد. التحية مع الانحناء خجلاً من كل مظلوم وفقيرٍ في بلدي، لكل عاجزٍ عن تأمين قوت يومه، لكل شهيد سقط غدراً، لآهات الجرحى وعذاباتهم، للمناضلين المتطوعين في مؤسسة الدفاع المدني الأبطال الذي تربطنا علاقة تاريخية، ومثلهم أبطال الصليب الأحمر وكل جهة إنسانية. ولا أنسى فريق المؤسسة لدينا، على تفانيه بالجهد والامكانات كي نرسم الفرح في أوقات الشدة ونمسح دمعة وسط الظلام. لبنان لن يموت، سنعبر رغم المِحن.