نتذكر أنه منذ حوالي ثلاث سنوات، عانى رئيس المجلس الجماعي للرباط من ضغوط متتالية من لدن ولاية الرباط، والولاية في المغرب هي من يمثل وزارة الداخلية والحكومة نفسها على المستوى الجهوي، أي باختصار أنها تجسد السلطة التنفيذية أو دولة القرب إذا شئنا. هذه الضغوط وصلت إلى حد أن العمدة لم يتمكن من حضور إحدى التدشينات التي قام بها الملك بالعاصمة، بل إن المجلس المنتخب لم يتمكن من تنظيم معرض بالعاصمة التي يسهر على تدبير شؤونها. طبعًا لم تكن الرباط المنطقة الوحيدة التي تطبق فيها هذه السياسة شبه العمومية، الهادفة إلى تحجيم دور المنتخب عمومًا، والمنتخب غير التابع خصوصًا، ولكن حالة الرباط وصلت للإعلام لأنها العاصمة.
نتذكر كذلك أنه منذ سنة ونصف بادرت وزارة الداخلية إلى التصرف في الميزانية المقررة من لدن مجلس جهة درعة ـ تافيلالت، وذلك بالإلغاء غير القانوني لمشروع التمويل الذي كان مخصصًا لفائدة الطلبة المنحدرين من هذه الجهة، والمنتمين للأسر ذات الدخل المحدود.
أما مناسبة هذا الكلام عن ضغوط وزارة الداخلية عن المؤسسات المنتخبة فهو واقعة غريبة وسخيفة في الوقت نفسه استهجنها الرأي العام، وذلك لما تعبر عنه من انحدار وصله الواقع السياسي بالبلاد. حدثت هذه الواقعة المؤلمة منذ خمسة أيام، لما كان حوالي 175 تلميذًا من المتفوقين في امتحان البكالوريا، المنحدرين من منطقتي تافيلالت ودرعة، ومن أسر محدودة الدخل، متوجهين إلى العاصمة الرباط، حيث كانوا سيستفيدون من دورة تكوينية تساعد على توجيههم وإكمال تأهيلهم لمباريات ولوج بعض المعاهد الوطنية العليا. ولنذكر أن اليوم كان يوم حر شديد؛ فالمنطقة ـ لمن لا يعرفها ـ توجد بجنوب شرق المغرب، وهي تعرف في هذا الوقت من السنة درجات مرتفعة من الحرارة، تصاحبها أحيانًا رياح جافة وحاملة للغبار. المهم في الأمر أن قوات الأمن والدرك أوقفت الحافلات الناقلة للتلاميذ، وأجبرتها على العودة إلى الراشيدية، بدعوى أن تلك الحافلات مخصصة للنقل المدرسي داخل الجهة. الجمعيات المؤطرة لعملية المرافقة من أجل التكوين، ونظرًا لضغط الوقت، وبعد أن قضى التلاميذ ليلة بالراشيدية في ظروف صعبة وغير منتظرة، ستلجأ إلى النقل العام كباقي الناس، لكن السلطات ستتدخل من جديد لمنع الحافلات من الانطلاق نحو الرباط، ودون إعطاء أي سبب وجيه. وفي الأخير، تفتق عقل ممثلي الداخلية بالجهة على حجة «قاسمة»، هي عدم توفر السلطات على التزام مكتوب وموقع من لدن «مؤسسة درعة تافيلالت للباحثين والخبراء»، يضمن إيواء التلاميذ بالرباط (اكظم ابتسامك أو غضبك أيها القارئ؛ فمعاناة التلاميذ لن تتوقف عند هذا الحد). فلما وصل التلاميذ في الأخير، وهم منهكون، ليلة الإثنين ـ الثلاثاء، إلى الرباط، اكتشفوا أن من طلب من المؤسسة التزامًا ومعلومات عن موئل التلاميذ قد استعمله لا للاطمئنان على راحتهم أثناء مقامهم التكويني بالعاصمة، وإنما لوضع العراقيل لولوجهم في أمكنة الإيواء. هكذا، لم يصدق المسؤولون التربويون عن الرحلة لما أخبرتهم إدارة الثانوية التي كانوا سيبيتون بحجرات «داخليتها» أن السلطات منعت عنها استقبال التلاميذ، رغم التزامها المسبق بذلك. قضى التلاميذ الليلة كما اتفق بمساعدة مؤطريهم.
صراع على السلطة هدفه الحد من شعبية بعض الأحزاب، وتحجيم قدرتها التفاوضية مع النظام، حتى تصبح تابعة كباقي التابعين
وفي الغد، اتصل هؤلاء بمؤسسة للسكن الجامعي الخاص فرحب بهم المدير أيما ترحيب، بل وهيأ معهم بنفسه حوالي مئتي غرفة لإيواء التلاميذ ومرافقيهم. وبعد أن ولج جزء من التلاميذ إلى غرفهم، وفرحوا بذلك محاولين نسيان كل المعاناة التي عانوها لليوم الثالث من أجل الوصول إلى الرباط والحصول على غرفة مريحة، تدخلت سلطات الداخلية من جديد لمنع استقبال التلاميذ من لدن المؤسسة، رغم أنها خاصة. مدير المؤسسة لم يكن فقط طيبًا، بل شجاعًا؛ فقد أخبر مرافقي التلاميذ أن ولاية الرباط هي من أعطته التعليمات بإفراغ المؤسسة منهم. غضب التلاميذ الفيلاليون النجباء، وقرروا في الأخير التعبير عن غضبهم عبر الفضاء الإعلامي الافتراضي، حيث نشروا صورهم وهم مشردون، وبدأ الصحافيون الاتصال بهم، وانتشرت التعليقات الساخرة والمنتقدة للسلطة بالشبكات الاجتماعية، بل إن بعض التلاميذ أخذوا يتصلون بجمعيات المجتمع المدني بالعاصمة لمساندتهم. المهم، وصل الأمر إلى الرأي العام، فبدأت تتخوف السلطات من أن يبادر التلاميذ للاعتصام بإحدى ساحات المدينة فيصبح الأمر فضيحة حقيقية… هكذا سارعت السلطة من جديد لتؤوي التلاميذ بالفنادق هادرة للمال العام، ومضيعة على المؤسسة الخاصة فرصة ثمينة، وبدون وعد بتعويضها عن الخسارة التي تجشمتها.
ليس هذا إلا مثالا عن صراع ـ في الغالب يكون صامتا ـ داخل أجهزة الدولة، بين المشروعية الانتخابية ومشروعية التعليمات الفوقية، التي يسميها البعض بالمشروعية المخزنية. إنه صراع كذلك بين المكتوب والشفوي، وفي الغالب ما ينتصر هذا الأخير. يمكن أن نذكر أمثلة أخرى؛ فقد بادرت ولاية جهة فاس ـ مكناس إلى إخبار الرأي العام مؤخرًا عبر يافطة كبرى أنها هي صاحبة مشروع إعادة تهيئة شارع محمد الخامس بفاس، ولم تقم بأي إشارة إلى المجلس المنتخب الذي يدير شؤون المدينة، الذي خصص نصف مليار درهم (أي حوالي خمسين مليون دولار) لتأهيل شوارع العاصمة العلمية التقليدية للمغرب.
إن هذا الضغط الذي تمارسه الداخلية على الهيئات المنتخبة التي تبدي بعض الاستقلالية السياسية عنها لا يقتصر على حزب العدالة والتنمية، بل قد يمس أية هيئة منتخبة تتصرف وكأنها الممثل الحقيقي للسكان، فلا تقبل تدخلات الداخلية إلا إذا كانت في إطار القانون، ولنذكر هنا بمعاناة رئيس مجلس أكادير السابق ـ ينتمي إلى حزب يساري ـ مع الداخلية التي عرقلت عددًا من مشاريعه وسياساته المحلية.
قد يتساءل القارئ عن سبب مثل هاته الضغوطات السلطوية على منتخبي الأحزاب. إنه صراع على السلطة هدفه الحد من شعبية بعض الأحزاب، وتحجيم قدرتها التفاوضية مع النظام، حتى تصبح تابعة كباقي التابعين، وهكذا يتم قتل الوساطات بين الدولة والمجتمع، فتصير الملكية المتماهية مع الدولة في خط النار الأمامي.
كاتب مغربي
لو يحصي المتتبع تجاوزات وزارة الداخلية في فترة الإنتخابات فقط دون غيرها لألف المجلدات, منذ عقود ظلت أجهزة الإستخبارات في بلداننا العربية الأذن والعين التي تراقب بهما الأنظمة الفاشلة شعوبها فيما وزارة الداخلية تمثل اليد التي تبطش بها, قبلنا بعد الربيع العربي بالإصلاحات الترقيعية فكان حالنا كما يقول المثل الشعبي: *رضينا بالهم لكن الهم ما رضي بنا*
تحية للكاتب على شجاعته.. في زمن قل فيه الصدق وكثرت فيه العمالة..
بالأمس كنت جالسا على مقعد في حديقة البايرو وأمامي تمثال لويس الرابع عشر ، صاحب مقولة ” الدولة أنا، وأنا الدولة ” ٠٠٠وخطرت ببالي مثلما خطرت رائعة ابو البقاء الرندى ٠٠٠٠ لكل شيء اذا ما تم نقصان *** فلا يغر بطيب العيش انسان
هي الامور كما شاهدتها دول *** من سره زمن ساءته ازمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد ***ولا يدوم على حال لها شان . وتذكرت قولة إدريس : من فظلكم أنا متعب وأريد أن أنام ! ….. وتحية صادقة إلى كل الأصوات الحرة