المغرب العربي… خزان بشري للغرب

منذ الاكتشافات الجغرافية الكبرى، وما تلاها من عمليات استعمار كبرى وانتقال الغرب إلى النظام الرأسمالي، أصبح باقي العالم في خدمة المصالح الاقتصادية والسياسية والعسكرية للغرب، خاصة فرنسا وبريطانيا ولاحقا الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. وتاريخيا، استغل الغرب باقي مناطق العالم في:
أولا، السيطرة على ثرواتها ومواردها الطبيعية، انطلاقا من الحبوب والذهب في الماضي إلى الطاقة، ثم المعادن النادرة في الوقت الراهن. وكانت عملية الاستغلال تتم بالقوة في الماضي نظرا للاستعمار. وجعلت من المستعمرات سوقا استهلاكية كبيرة لمنتوجاتها. ونتساءل: هل كان بإمكان بريطانيا أو فرنسا تحقيق نمو اقتصادي ورفاهية كبيرة، من دون استغلال موارد المستعمرات من جهة، وبيع المنتوجات لاحقا من جهة أخرى.
ثانيا، استغلت دول الغرب شعوب العالم الثالث، وقامت بتجنيد مواطني هذه الشعوب في جيوشها النظامية. ومن المفارقات المحزنة والمؤسفة في تاريخ الاستعمار، هو استعمال الدول الاستعمارية لشعوب العالم الثالث لتعزيز الاستعمار. وكان الجنود السنغاليين مثلا، يواجهون المقاومة المغربية، ونقلت فرنسا الجنود المغاربة والجزائريين، لكي يواجهوا المقاومة الفيتنامية. وحدث هذا مع بريطانيا التي استعمرت الهند، بفضل تجنيدها أبناء هذا البلد ضد بعضهم بعضا. وعند اندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية، اعتمدت الدول الاستعمارية على جنود من شعوب مستعمراتها لكي يحاربوا في صفوفها في الحربين المشار إليهما. لقد مات مئات الآلاف من مواطني شعوب الجنوب في حروب لم تكن تعنيهم مثل الحرب العالمية الثانية. ومن المفارقات المحزنة، كيف انخرطت شعوب الجنوب في حماية دول مثل فرنسا وبريطانيا إبان الحرب العالميتين، بدل استغلال الظرف وطرد الاستعمار.

تحول دول الجنوب، خاصة الفقيرة التي لا تستطيع خلق فرص عمل لأبنائها إلى خزان بشري للغرب، فمن جهة تزوده بالأطر والعمال، ومن جهة أخرى تقوم بتصحيح الخلل الديمغرافي الذي يعانيه

بعد حصول دول العالم الثالث على استقلالها، ظهر استغلال جديد لا يختلف عن الاستغلال أيام الحقبة الاستعمارية، وإن كان في حلة لينة، ويتجلى كذلك في مظهرين:
أولا، يستغل الغرب تفوق شركاته من الناحية العلمية والتقنية بحكم التأخر الذي يعيشه الكثير من الأمم، وتجد هذه الأخيرة نفسها مضطرة إلى تفويت الكثير من الحقوق لهذه الشركات، مقابل الاستثمار والحصول على نسبة تكون محدودة. والآن، بدأت بعض الدول، خاصة في افريقيا تدرك مدى اغتناء دول أوروبية على حسابها، لهذا نرى مسلسل طرد فرنسا من مناطق في افريقيا، خاصة الساحل وسحب ما كانت تنعم به من تساهل في استغلال موارد المنطقة.
ثانيا، شجعت الدول الغربية على هجرة مواطني العالم الثالث إليها، لكي تعيد بناء اقتصادها بعد الحرب العالمية الثانية، وهي الهجرة التي تستمر حتى وقتنا الراهن، ويشجع الغرب على هذه الهجرة، رغم مصادقته ظاهريا على قوانين للحد منها، وتوظفها الأحزاب السياسية ومنها اليمين القومي المتطرف في الحملات الانتخابية، مثلما يحدث في دول مثل هولندا وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة، خاصة في سنة 2016 عندما تقدم المرشح الجمهوري دونالد ترامب للانتخابات الرئاسية وفاز بها. ويبقى المظهر الخطير للهجرة هو هجرة الأدمغة من العالم الثالث إلى العالم الأول، إذ تحول الأمر إلى استنزاف حقيقي للتنمية في العالم الثالث. ويفقد الكثير من الدول أطرا كثيرة في مجالات حيوية مثل التعليم والصحة والبحث العلمي والمعلوميات والبرمجة، لأن هذه الأطر تنتقل للعمل في الغرب بفضل الإغراءات التي تقدمها الدول الغربية. وتجلب دول مثل بريطانيا آلاف الأطر من مستعمراتها السابقة، خاصة من الهند وباكستان. وتجلب فرنسا آلاف الأطر سنويا من دول مثل المغرب والجزائر والسنغال، حيث تسبب في أزمة لقطاع الصحة في هذه الدول. وبدورها تقوم الولايات المتحدة بجلب أطر من مختلف مناطق العالم. وإذا كانت دول العالم الثالث غارقة في الفساد والمحسوبية، إلا أن مغادرة الأطر تفاقم من عرقلة التنمية في هذه الدول. في مظهر محزن آخر، تقترض الدول مثل المغرب أو تونس من صندوق النقد الدولي وتشرف على تكوين أطباء بميزانيات ضخمة، وفي آخر المطاف ينتقل الطبيب إلى الغرب بسبب الاغراءات والفساد المتجلي مثلا في «الولاءات بدل الكفاءات». وظهرت خلال العقدين الأخيرين ظاهرة أخطر وهي المتعلقة بالنسل، في هذا الصدد، تعاني الدول الغربية خاصة الأوروبية من ضعف النمو الديمغرافي، نتيجة تراجع معدل الولادات. وهذا يطرح تحديات لبعض القطاعات وعلى رأسها الخدمات. كما يطرح مشكلة تمويل صندوق الضمان الاجتماعي مستقبلا. ولا يتردد بعض خبراء الغرب في التشديد على جلب مهاجرين لإصلاح خلل النمو الديمغرافي. ولهذا، تستقبل الدول الغربية مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا سنويا ما بين 200 ألف إلى 300 ألف مهاجر من مختلف مناطق العالم، البعض يأتون بطريقة قانونية وآخرون غير قانونية.
تحول دول الجنوب، خاصة الفقيرة التي لا تستطيع خلق فرص عمل لأبنائها إلى خزان بشري للغرب، فمن جهة تزوده بالأطر والعمال، ومن جهة أخرى تقوم بتصحيح الخلل الديمغرافي الذي يعانيه. وتجد حكومات فاسدة في العالم الثالث في سياسة الغرب هذه تخفيفا من أزماتها الاجتماعية، ولكنها لا تدرك في العمق مدى عرقلة تقدم أممها، نظرا للاستنزاف البشري المتواصل. عندما يغادر أستاذ دولة من دول العالم الثالث للعمل في الغرب، فهو يساهم في انتشار الأمية. وعندما يهاجر طبيب إلى الغرب، فهو يساهم في تراجع قطاع الصحة مما يعنيه وفاة مرضى بسبب نقص العناية، وعندما يفضل مهندس معلوميات العمل في الغرب، فهو يساهم في تأخير التحاق بلاده بركب الثورة الرقمية. لا توجد إرادة كبيرة لدى معظم دول العالم الثالث لوقف هذا النزيف، وبدأت دول تعي خطورة هذه الظاهرة. وتبقى الدول التي تحافظ على أطرها هي تلك التي لديها برامج وطنية للتقدم مثل تركيا وإيران والبرازيل وإندونيسيا، بينما تستمر أخرى ومنها دول شمال افريقيا مثل المغرب والجزائر خزانا بشريا للغرب سواء الهجرة العادية أو هجرة الأطر. نعم يستمر المغرب العربي خزانا للغرب وخاصة أوروبا.
كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية