الرباط ـ «القدس العربي»: ما زال زواج القاصرات في المغرب يشكل جرحاً لا يندمل يعلو محيا المجتمع الذي يسير في طريق الحداثة والتقدم، ورغم ذلك لم يتمكن من أن يجعل ذلك الجرح يلتئم خاصة في ظل توفر جميع الشروط القانونية والمؤسساتية التي تعبّد الطريق أمام المواطنين لكي يبدّلوا اتجاه الرياح العاصفة التي تذهب ببراءة طفلات يرتمين قصراً في حضن زواج مبكر وغير منصف.
إلى وقت قريب كان وربما ما زال يشكل موسم «إملشيل» حيث الزواج بالجملة أبرز تجل لظاهرة زواج القاصر، وهي لحظة موروثة من التاريخ وتتكرر كل سنة، لكنها تعكس توجه نسبة من المجتمع تتشبث بالتقاليد وتعض عليها بالنواجذ، وفي كل مرة تعلو أصوات جمعيات نسائية وغير نسائية لتطالب بوقف الزيجات التي يكون ضحيتها قاصراً ذكراً أو أنثى، لكن الموسم المذكور ليس هو عصب المشكل ورحى المعضلة، بل هو فقط احتفال يتم في منطقة تؤمن بالموروث أولاً، وبأن مصير الفتاة هو بيت الزوجية مثل العديد من مناطق المغرب.
طبعاً ليست كل الزيجات التي تعقد في موسم «إملشيل» هي لقاصرات، النسبة معدودة لكنها تثير دائماً الجدل وتجدد المطالب بعدم السماح بمثل هذه الممارسات حتى ولو كانت بقناعة من أصحاب الشأن، إلا أن الرأي الأول والأخير يبقى للفتاة القاصر التي لا يمكن الاعتداد بموقفها في خضم منظومة مجتمعية «أبيسية».
فالأعراف والتقاليد والفهم الخاطئ للدين وعوامل أخرى تدخل في تنامي ظاهرة زواج القاصر، ويبقى أحد هذه العوامل المسيطرة على تفكير الفئات عريضة تعيش بعيداً عن المدن الكبرى وخاصة في الأرياف والمدن الصغرى، وربما منها نسبة توجد حتى في بعض المدن الكبرى، هو عامل السن الذي يعتبر حاسماً في حصول الفتاة على «نصيبها» من الزواج.
الفكرة المهيمنة التي تستبعد إمكانية اعتماد الفتاة على نفسها من خلال العمل أو خلافه، تجعل من عامل السن محدداً لفرصها في الزواج وتصبح بمجرد بلوغها العقد الثاني من عمرها في حكم «العانس» أو كما يقال بالدارجة المغربية «بايرة».
ربط مصير الفتاة لدى العديد من فئات المجتمع المغربي بالزواج كمنقذ، يجعل من الصعب ترقب أي تغيير في العقليات السائدة التي تتغذى على ثقافة العيب والعار و«الحشومة» و«البايرة» وما جاورها من قناعات خاطئة لكنها أمر واقع لدى البعض.
مؤسسات الدولة القانونية لم تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا الواقع، بل إنها تفعّل المراقبة، وتعمل على حماية القاصرات وحتى القاصرين من الذكور، من زواج لا يد لهم فيه فقط العرف والموروث هو الذي يزج بهم في حياة مغايرة لما يتوقعونه.
ونشير هنا إلى جهود رئاسة النيابة العامة المغربية التي تقف شاهدة على حجم العمل الذي يبذل من أجل تطويق هذه الظاهرة قانونياً، ومنعها بشكل لا يحد من حريات وحقوق المواطنين في اختياراتهم، لذلك فإنها تعمل على تقديم ملتمسات عديدة أمام محاكم المملكة لرفض طلبات تزويج القاصرات، بالإضافة إلى إجراءات أخرى.
الموسم المذكور هو تجلّ فقط، أما البقية فتعيشها عدد من مدن وأرياف المغرب، حيث تعشش التقاليد التي لا علاقة لها بما جد واستجد في المغرب الحديث.
العنف ضد النساء
ما حرك الحديث عن ظاهرة زواج القاصر، هي نتائج الدراسة التشخيصية التي قدمتها رئاسة النيابة العامة أول أمس الإثنين 29 تشرين الثاني/نوفمبر في مدينة مراكش، والتي تأتي في إطار التزامات إعلان مراكش 2020 للقضاء على العنف ضد النساء، الذي تم إطلاقه تحت الرئاسة الفعلية للأميرة للامريم (شقيقة العاهل المغربي) بمناسبة اليوم العالمي للمرأة 8 آذار/مارس 2020.
حفل تقديم الدراسة التشخيصية الذي ترأسه الوكيل العام للملك (المدعي العام) رئيس النيابة العامة الحسن الداكي، يدخل في إطار مساعي هذه المؤسسة القضائية للإسهام في الحد من زواج القاصر بتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للطفولة اليونسيف، وتفعيلاً لاستراتيجية رئاسة النيابة العامة لتعزيز حماية حقوق المرأة والطفل، وتزامناً مع الأيام الدولية لمناهضة العنف ضد النساء والفتيات والتي تلي اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد النساء الموافق 25 من تشرين الثاني/نوفمبر.
واستهدفت الدراسة المذكورة التي تلقّت «القدس العربي» نسخة منها، المساطر القضائية ذات الصلة ورصد العوامل الواقعية المحيطة بهذا الزواج، سواء منها الاقتصادية أو السوسيوثقافية وغيرها.
وسجلت الدراسة أن مؤشرات زواج القاصر التي يتم تسجيلها سنوياً منذ دخول المدونة حيز التنفيذ سنة 2004 تطرح أكثر من تساؤل على مستوى الارتفاع المتنامي لعدد رسوم زواج القاصرين. ما يجعل القوانين الحمائية والمؤسسات الساهرة على تنفيذها وجميع الفاعلين محط مساءلة حول التدابير التي يتعين اتخاذها للحد من هذا الزواج، نظراً لما يترتب عنه من تبعات وآثار تحول دون تمتع الأطفال بحقوقهم كاملة، ويجعلهم أكثر عرضة للعنف بشتى أنواعه، فضلاً عن ارتفاع معدلات وفيات الأمهات والرضع، كما يشكل هذا الزواج إحدى العقبات الرئيسية التي تحول دون ضمان فرص التعليم والعمل وغيرها من فرص التمكين للفتيات والشابات.
ووقفت الدراسة التشخيصية من خلال تحليل المعطيات القضائية على عدد من نقاط القصور، من بينها ضعف اللجوء إلى المساعدات الاجتماعيات في المحاكم لإجراء الأبحاث الاجتماعية في ملفات زواج القاصر بنسبة لا تتجاوز 12 في المئة، كما أن نسبة كبيرة من الأذونات بزواج القاصر لا يتم اللجوء فيها إلى الخبرة الطبية بنسبة تتجاوز 43 في المئة، علماً أن كلاً من الخبرة الطبية والبحث الاجتماعي عندما يُنجزان على الوجه المطلوب يُعينان القاضي على تقدير مصلحة القاصر من الزواج من عدمها.
ورسخت الدراسة نفسها من خلال النتائج الميدانية القناعة بأن الأوساط الاجتماعية التي تعاني من الهشاشة هي الأكثر إنتاجاً لزواج القاصر، ناهيك عن وطأة الأعراف والتقاليد إلى جانب دخول التأويل الخاطئ للدين على الخط ومساهمته في تنامي هذا النوع من الزواج، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
وخلصت هذه المعطيات إلى استنتاجات تلقي الضوء على الأسباب المختلفة التي تقف وراء ارتفاع أرقام زواج القاصر في المجتمع، ومكنت هذه الاستنتاجات من اقتراح خطة طريق تهيئ لمستقبل العمل القضائي من جهة، والعمل التشاركي، المتعدد التدخلات، من جهة أخرى، وذلك من خلال توصيات تأمل رئاسة النيابة العامة أن تساعد وترشد المتدخل والممارس والمهتم بالموضوع.
وأوضحت المعطيات أن مجال الدراسة القضائية شمل 18 قسماً لقضاء الأسرة والمراكز التابعة لها، وتحكمت في اختيارها اعتبارات تتعلق بالتمثيل الجغرافي لكافة جهات المملكة، وكذا المعطيات الإحصائية السنوية المسجلة ارتباطاً بأذونات زواج القاصر، وقد غطت هذه الدراسة خمس سنوات من 2015 إلى 2019.
أما الدراسة الميدانية فقد ارتكزت على إقليم أزيلال (في جبال الأطلس المتوسط وسط البلاد) لعدة اعتبارات ترتبط بخصوصية بنيته الجغرافية والديموغرافية، حيث يعد الإقليم من أكبر الأقاليم مساحة على مستوى البلاد ككل، ويتميز بطبيعة جغرافية قاسية جداً، كما تتسم الجماعات المكونة له بطابعها القروي، وتشكل الساكنة القروية فيه النسبة الأكبر، وتمثل نسبة الأمية من الساكنة عموماً 6.47 في المئة وترتفع هذه النسبة لدى الإناث لتصل إلى 9.59 في المئة وتتميز البنية الثقافية للإقليم بتنوعها وغناها، حيث تتوزع ساكنة الإقليم بين ناطقين باللغة العربية وناطقين باللغة الأمازيغية، وبين ساكنة جبلية وساكنة سهلية، كما تتوزع إلى جماعة استقرار وأخرى تعرف نظام الترحال.
وشددت على سن زواج القاصر الذي يتراوح في غالب الحالات بين 16 سنة ونصف و17 سنة ونصف.
الحرمان من الخدمات الصحية
في الجانب الصحي، سلطت الدراسة التشخيصية الضوء على وضعية القاصر بعد الزواج، حيث إن أغلب القاصرات المتزوجات لم يسبق لهن أن استفدن من خدمات القطاع الصحي الخاص، بنسبة تجاوز سقفها 53 في المئة، وذلك راجع بالأساس إلى عدم قدرتهن على تحمل تكاليف التطبيب بهذا القطاع.
إضافة إلى كون القاصرات المتزوجات يعانين بشدة من الحرمان من الخدمات الصحية، حيث إن نسبة مهمة منهن لا يتوفرن على أي تغطية صحية، ولا يستفدن من أي رعاية صحية، كما أن 37.26 في المئة من ضحايا الزواج المبكر يضطررن إلى الإنجاب في المنزل دون إشراف طبي، و59.07 في المئة يحتجن إلى الولادة القيصرية، أما نسبة 14 في المئة من حالات حمل القاصرات فينتج عنها مضاعفات خطيرة كالإجهاض ووفيات المواليد الجدد والإعاقة أيضاً.
يضاف إلى كل ما سبق، ارتباط الزواج والولادة المبكرين ارتباطاً مباشراً بارتفاع نسبة الأمراض التي تصاب بها القاصرات بعد الزواج، حيث تتوزع بين الأمراض الناتجة عن مضاعفات الحمل والولادة، وأخرى ناتجة عن الوطء، فيما أخرى ناتجة عن العنف الأسري وأسباب أخرى.
وليس موضوع الانقطاع عن الدراسة لدى الفتيات خاصة بالموضوع العادي، فالمشكلة عويصة فعلاً في مناطق عديدة من المغرب، حيث يعتبر تعليم الفتاة نوعاً من الترف وأمراً زائداً لا طائل منه، وأن مصير البنت هو بيت الزوجية حتى ولو كانت غير مؤهلة لخوض هذه التجربة الحياتية التي تستلزم توفر المقبل عليها على رصيد كاف من الوعي بالمسؤولية وحتى الاستعداد البدني والفكري والقبول النفسي طبعاً.
لذلك، فعودة 2000 فتاة إلى مقاعد الدراسة في جهة مراكش ـ آسفي وحدها، تدخل في باب الإنجاز الذي يبشر بأن محاصرة زواج القاصر المتسبب الرئيسي في غياب الفتيات عن الفصول الدراسية، سيكون أمراً واقعاً في المغرب. وجاء ذلك نتيجة مساهمة النيابة العامة في الجهود الرامية إلى التصدي لزواج القاصر ومحاربة الهدر المدرسي في صفوف القاصرات بالانفتاح على الجهات الفاعلة والمعنية بالموضوع.
ممنوع زواج القاصرات ولكن مسموح لهن بالزنا وتربية الأطفال خارج إطار الزواج كما يحدث في الغرب…عالم عجيب. بدلا من تحديد سن الزواج ومنع القاصرات من الزواج دونه السماح بزواجهن بموافقة الوالدين والمحكمة ولجنة طبية تحدد تأهلهن له.