قال الأستاذ محمد الساسي منذ حوالي أسبوعين أن المغرب على مفترق طرق من جديد «فإما الانفراج أو الانفجار». ومن يعلم أن حكيم اليسار المعارض، لا يطلق أبدا الكلام على عواهنه، عرف أن مزاج المغرب والمغاربة اليوم ليس بخير. فالإحساس بالفقر والتهميش والإقصاء أو ما يسمى «بالحكرة»وهي كلمة دارجة ملؤها الغضب، ازداد بشكل كبير استعمالها في السنوات الأخيرة، وهي تعني فيما تعنيه المهانة والاحتقار من طرف الأقوياء ـ وقد تكون بينهم الدولة ـ للضعفاء.
وفعلا فإن المغرب يعيش منذ حوالي سنتين جوا اجتماعيا وسياسيا ملبدا بالغيوم. ومن بعض سمات هذا الجو الخانق، التوتر وانعدام الثقة واليأس من تحسن الأوضاع. ولنبدأ بالنقطة الأخيرة والتي ترمز إليها الفاجعة التي حدثت يوم الثلاثاء الماضي، حيث أطلقت البحرية الملكية النار على أحد الزوارق البالغة السرعة والتي تقوم بالنقل اللاقانوني للمرشحين للهجرة وفيها توفيت الشابة حياة بلقاسم ذات العشرين ربيعا، كما جرح ثلاثة آخرون من بينهم شاب حالته خطيرة. هذه الحادثة المروعة تدل على أن الدولة متوترة الأعصاب فهي تريد بأي طريقة أن تدلل على أنها تتحكم في الأمور وأنها تسهر، مهما كان، على إنفاذ القانون و«سيادة الأمن». لكن أن تُستعمل وسائل حربية ضد مدنيين عزل فهذا تطور خطير يقتضي المساءلة الحقيقية. خصوصا وأن حياة من قرر إطلاق النار للقتل لم تكن في خطر.
إن قرار طالبة جامعية في مقتبل العمر المغامرة بالهجرة إلى بلاد أخرى، وهي تعلم أنها لن ترحب بها وأن المصير قد يكون، قبل الوصول إليها، الغرق والموت، فهذا يدل على أن جوا حقيقيا من اليأس والإحباط يخيم في أوساط الشباب المغربي. فقد أكدت دراسات علمية حديثة وبالأرقام أن أغلبية الشباب تحبذ الهجرة على متابعة العيش مع العائلة بالمغرب. رغم أن دراسات أخرى كانت قد برهنت على أن إحدى القيم الرئيسية للمجتمع المغربي هي التشبت بالحياة الأسرية. هذا يدلل على انشطار نفسي حقيقي ومؤلم.
وإن كان الحدث الأقسى، فمقتل حياة التي كانت ترغب بالهجرة ليس الوحيد في سلسة أحداث تعبر عن ضيق شباب المغرب من بلادهم ويأسهم من العيش فيها بحرية وكرامة. واقعة أخرى استنفرت المجتمع الافتراضي المغربي: أحياء هشة مهددة بالهدم بالدار البيضاء العاصمة الاقتصادية للبلاد، أقول أحياء بكاملها، قرر شبابها الاحتجاج عبر الإعلان عن قرارهم بطلب ما سموه «اللجوء الإنساني» بسبتة المحتلة، بل إن متحدثا باسمهم قد صرح للصحافة «أن الساكنة المعنية قررت مغادرة أرض الوطن يوم الجمعة المقبل مباشرة بعد صلاة الفجر». وذلك لأنها «افتقدت الأمان داخل الوطن» على حد تعبيره.
الاحساس بالفقر والتهميش والإقصاء في المغرب ازداد بشكل كبير في السنوات الأخيرة
هذا يذكرنا بالقرار الجماعي الذي كان قد اتخذه بعض سكان مدينة فكيك الحدودية مهددين بمغادرة البلاد إلى الجزائر إذا لم تتراجع السلطات عن مشروع كان سيؤدي لحرمانهم من مصدر رزقهم أي الأرض الزراعية المحيطة بالمدينة. الأمور أحيانا تصل إلى حدود الشعار ـ التهكمي ولكن المعبر سياسيا ـ الذي تصدح به حناجر بعض جماعات الشباب العاطل عن العمل ويقول هذا الشعار: «الشعب يريد الحريك» أي الهجرة السرية، وهو مستلهم طبعا من شعار الربيع العربي «الشعب يريد إسقاط النظام».
سمة أخرى يتسم بها المزاج العام هي انعدام الثقة ليس فقط بين الأفراد ولكن كذلك في المؤسسات. فالانتخابات الجزئية الأخيرة برهنت بشكل ملموس أن جزءا ممن شاركوا في التصويت فعلوا ذلك مقابل المال أو لتلقيهم وعودا بالدعم المادي المباشر. كما أنه أصبح يحدث أكثر فأكثر، وبدون تنظيم أو تنسيق مسبق، أن عشرات الآلاف من الشباب المتجمعين في مدرجات الملاعب الرياضية يصرخون بشعارات تعبر عن، ليس فقط، انعدام ثقة سلبي ولكن عن تشكك عميق في نوايا الدولة. بل أن هؤلاء الشباب يعتقدون أن النخبة الحاكمة تتآمر لتجهيلهم وتهميشهم عنوة حتى تبقى هي المستفيد الوحيد. يقول الشعارالدارج وهو ذو إيقاع جميل يسهل حفظه عن ظهر قلب: (مابغيتونانقراو.. مابغيتونانخدمو.. مابغيتونانوعاو.. باش تبقاو فينا تحكمو). وهو يعني بالعربي الفصيح: أيها الحاكمون، لا تريدون منا أن ندرس ولا أن نتثقف، ولا أن نحصل على شغل، ولا أن يكون لنا وعي سياسي، حتى تبقوا أنتم وحدكم مسيطرين على الحكم. هذا شعار يحلل نظامنا السياسي بل يفككه إلى سياسة تعليمية يعتبرها «تجهيلية» كما يقول بعض المناضلين اليساريين، وإلى سياسة اقتصادية اجتماعية لا تخلق شغلا وإلى سياسة ثقافية وإعلامية هدفها إبعاد الشعب عن الاهتمام بالشأن العام والمشاركة السياسية المؤثرة.
انعدام الثقة هذا ألحت عليه هيئة رسمية هي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حيث أكد تقريرها عن حالة المغرب، أن هناك «شرائح واسعة من المغاربة «تفقد الثقة كما تفقد الأمل في القدرة على بلوغ مستوى عيش أفضل». بل إن صراحة التقرير صادمة في ما يخص انعدام الثقة ذا المضمون السياسي: فقد أشار التقرير بالحرف الواحد إلى «تراجع على مستوى الثقة في المؤسسات» بل وإلى عدم الاعتقاد الجمعي في إرادة الدولة بحماية وإنفاذ القانون.
كل هذا أدى بخالد البكاري وهو أحد النشطاء المدنيين الأكثر شعبية على شبكات التواصل الاجتماعي إلى القول في إشارة إلى المواطن التونسي الذي خرج يصرخ ليلا وقت مغادرة الرئيس للبلاد، «بنعلي هرب.. بنعلي هرب»، قال البكاري ما معناه، «ما دمنا مواطنين مسالمين فلن نقول للحاكم، ارحل ولكننا سنقول : «الشعب هرب.. الشعب هرب».
٭ كاتب مغربي