بعد مرور أسبوع على زلزال المغرب راسلت مدرسة أولادي الثانوية أولياء الأمور تخبرهم باعتزامها البدء بجمع تبرعات لضحايا الزلزال.
تضامن المدرسة مع المغرب ليس استثناء، ففي كل مرة تحدث كارثة إنسانية في مكان ما من هذا العالم تفعل المدرسة الشيء نفسه. وفي كل مرة تسعدني الفكرة ليس فقط من زاوية المساهمة ولو بنزر يسير في تخفيف آلالم أناس لا نعرفهم ولا يعرفوننا، لكن أيضا لما لها من أثر في توعية الطلاب بأهمية الإحساس بالآخرين والتضامن معهم في أوقات محنهم، خصوصا أن المدرسة تهتم بوضع المساعدات في بهو المدخل حتى يراها الطلاب طول الوقت فتحرك فضولهم وتوقظ مشاعرهم تجاه الكارثة وضحاياها.
لكن في هذه المرة استغربت عدم ذكر ضحايا سيول درنة الليبية من التبرعات، وكارثتهم لا تقل عن كارثة المغرب إن لم تكن أسوأ.
في توقيت متزامن تقريبا كان الكثير من الإعلام الغربي قد بدأ يقلّص مساحة تغطيته لزلزال مراكش ويكتشف هول كارثة درنة. رغم ذلك لم يجلب هول درنة التعاطف الذي نالته مراكش. وفي المجمل كان الحدثان قد بدآ في التراجع من حيث مساحة الاهتمام في الإعلام الدولي. وذلك أمر طبيعي في العمل الإعلامي، فبعد الصدمة ومشاهد الهلع والقصص الإنسانية الأولى، السعيدة منها والمؤلمة، تُحتّم المنافسة والضرورة المهنية على الصحافي الغربي التفكير في زوايا جديدة ومختلفة للتغطية، خصوصا إذا كان مسرح الحدث لا يعني هذا الصحافي وجمهوره مباشرة.
ومما اهتدى إليه بعض الإعلاميين في بحثهم عن زوايا جديدة للتغطية، ذهابهم إلى إجراء مقارنات بين المغرب وليبيا في ما يتعلق بالعمل الإغاثي والتضامن الاجتماعي وسلاسة الحركة ووضوح أساليب العمل. وكانت نتيجة المقارنة أن في المغرب الأمور بخير، والعكس في ليبيا. هنا دولة ومؤسسات ومجتمع متجانس مفعم بالحيوية، وهناك دولة محطّمة إلى أجزاء ومجتمع يائس ومنقسم على نفسه.
من الضروري القول إن الفكرة مغلوطة وحتى ظالمة من أساسها، إذ كيف تصح المقارنة بين ردة فعل دولة مستقلة مستقرة بمؤسساتها المتنوعة والقائمة، وشبه دولة في حالة حرب يمكن بسهولة وصفها بالفاشلة لا مؤسسات فيها جديرة بالاحترام.
المقارنة أصلا غير واردة في مأساتين الواحدة منهما تدمي القلب أكثر من الأخرى. ورغم ذلك لم يمنع الإعلام الغربي نفسه من السقوط في فخها.
الهبّة الشعبية التي شهدها المغرب تضامنا مع ضحايا زلزال مراكش ونالت إعجاب العالم، قابلتها هبّة مماثلة في ليبيا وستقابلها أخرى في أي دولة عربية تصيبها كارثة
بالنسبة للعالم الغربي، ليبيا هي معمر القذافي وكل ما نُسب له من نزق وطيش عمَّرا أكثر من أربعة عقود. ثم بعده خليفة حفتر ومختلف الميليشيات والعصابات التي تقاسمت جغرافيا ليبيا وخيراتها. والمجتمع الليبي، من وجهة النظر ذاتها، هو تشكيلة بشرية سريعة الانفعال ومنغلقة لا تُبدي استعدادا للانفتاح على الآخر (حتى الكثير من العرب في المشرق والمغرب راكموا نفس الانطباعات والأحكام عن ليبيا والليبيين).
هذه الأحكام مجحفة بحق شعب يستحق كل التعاطف والاحترام. الليبيون لا يختلفون عن بقية العرب في شيء. في بعض المساحات الليبيون أفضل من عرب كثيرين صنعتهم الآلة الإعلامية الغربية لا غير، لولا أنهم ضحايا القذافي أولًا، والمافيات التي حلّت محله منذ 2011 ثانيا.
الهبّة الشعبية التي شهدها المغرب تضامنا مع ضحايا زلزال مراكش ونالت إعجاب العالم، قابلتها هبّة مماثلة في ليبيا وستقابلها أخرى في أي دولة عربية تصيبها كارثة. هذا هو الأصل وليس هناك ما يثير الإنبهار والإشادة. لكنها في ليبيا اصطدمت بواقع الانقسام السياسي والميليشياوي وشساعة الجغرافيا وغياب مؤسسات فعالة. والنتيجة أن هذه الهبّة لم تنل الاهتمام الإعلامي الدولي ذاته، للأسباب المذكورة وأخرى منها أن الغرب استسلم بسهولة لأحكامه الجاهزة عن ليبيا والليبيين فقلل اهتمامه بكارثة درنة مفضّلا عليها مراكش.
أما المغرب فيحظى بتعاطف واضح ومتراكم في الإعلام الدولي، كان منطقيا أن يتصدر العناوين في أعقاب الزلزال (في ذروة الأزمة السياسية بين الرباط وباريس نجح بعض الإعلام الفرنسي في إيجاد مسوّغات للدفاع عن رفض المملكة استقبال مساعدات أجنبية ومن فرنسا بالذات). ففي المخيال الجمعي الغربي المغرب هو تلك البلاد المتسامحة المنفتحة على الآخرين وثقافاتهم ودياناتهم وأعراقهم. والمجتمع المغربي هو تلك الكتلة البشرية المسالمة المرحِّبة التي لا يمانع أهلها، حتى الأشد ضيما منهم، عندما يتسابق السيّاح الغربيون لالتقاط الصور التذكارية معهم. وما زاد في تكريس هذا الحكم الغربي أن الزلزال ضرب مراكش بالذات، نقطة الجذب الأولى للأجانب.
أستطيع أن أقول هنا أيضا إن في الأمر خللا قد يختلف عن ليبيا، لكنه ينبع من نظرة غربية جاهزة وكسولة لهذه المنطقة وشعوبها. يبدو لي أن التعاطف الإعلامي الغربي كان مع مراكش، المنارة السياحية العالمية، أكثر منه مع المغرب ككل.
لقد تابعت جانبا من التغطية الإعلامية في الغرب لزلزال الحُسيمة في شتاء 2004، ولا أذكر أنها كانت مغمورة بالعواطف التي رافقت تغطية زلزال مراكش الأخير. هل لأن الحسيمة مجرد بلدة صغيرة (عدد سكانها لحظة زلزال 2004 أقل من 60 ألف نسمة) منسية في شمال شرق المغرب ومغيَّبة من خارطة الجذب السياحي؟
بيتر بومونت، مراسل صحيفة الغارديان البريطانية، قال (الجمعة 15 أيلول/سبتمبر) إنه وصل إلى المغرب في زمن قصير جدا بعد تكليفه بالمهمة، وأنه بعد ساعة من نزول طائرته كان في إحدى القرى المنكوبة يتحدث مع الناس ويستمع إليهم. ثم جزم بأن الأمر سيكون مختلفا تماما بصعوبته لو أن الصحيفة كلّفته بالذهاب إلى ليبيا.
التغطية الإعلامية الغربية (وحتى العربية) لما بعد زلزال مراكش تعطي الانطباع بأن ما أعقب الكارثة من تضامن شعبي وجهد حكومي كان مثاليا. وهو ما ليس دقيقا. وتحاول تكريس الاعتقاد بأن الشلل في ليبيا بعد السيول أمر طبيعي ومنتظر. وهو ما ليس دقيقا أيضا.
مرة أخرى ليبيا ضحية كليشيهات جاهزة منذ عقود. والمحنة الحالية هي فرصة الليبيين لتحطيم الصورة الظالمة والبرهنة للعالم على أنهم ليسوا مثلما يظنّهم.
كاتب صحافي جزائري