في الأول من نيسان/أبريل عام 1980 قررت تسع دول في الجنوب الأفريقي أن تتكاتف معا ضد دولة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وأن تتحمل عبء دعم حركات التحرر الأساسية الثلاث: المؤتمر الوطني الأفريقي بقيادة الزعيم السجين نيلسون مانديلا، والفصيل الراديكالي مؤتمر عموم أفريقيا بقيادة الزعيم روبرت سوبوكوي، وحركة تحرير جنوب غرب أفريقيا التي سميت بعد الاستقلال ناميبيا والمعروفة باسم سوابو بقيادة الزعيم سام نجوما، الذي أصبح أول رئيس منتخب لناميبيا المحررة. أنشأت الدول التسع بقيادة زامبيا ‘مؤتمر التنسيق الإنمائي للجنوب الأفريقي’ لتشد بعضها بعضا، خوفا من انتقام العملاق الاقتصادي والعسكري الممثل في نظام الإبرثايد في بريتوريا، بسبب دعمها للكفاح المسلح الذي تشنه الفصائل الثلاث. بدأ بيك بوثا الملقب بالتمساح (نسخة غير معدلة عن شارون) بمعاقبة تلك الدول عسكريا واقتصاديا، ودعم الحركات الانفصالية والرجعية مثل يونيتا في أنغولا ورينامو في زمبابوي بتشجيع من ريغان ومارغريت ثاشر وإسرائيل أقرب حلفاء تلك الدولة. لقد علمتهم إسرائيل كل أنواع الشرور بما فيها إرسال طرود مفخخة تنفجر في أيدي مستلميها، بل عرضت عليهم أن تبيعهم أسلحة نووية، كما كشفت مؤخرا جريدة ‘الغارديان’ اللندنية (عدد 24/5/2010). لكن مناضلي شعب جنوب أفريقيا شنوا حربا مضادة ضد بوثا ونظامه في العالم لمحاصرته وتجريده من أي شرعية قانونية أو خلقية أو سياسية، لقد طالبوا العالم بالمقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على النظام، وما هي إلا سنوات قليلة حتى بدأت العواصم العالمية تفتح قلوبها وإمكانياتها للمناضلين، وتغلق استثمارات ومكاتب ونشاطات نظام الفصل العنصري، وفي أقل من عشر سنوات بدأ ذاك النظام الكريه يلفظ أنفاسه الأخيرة. لقد تمكن ناشطون من الفلسطينيين في الوطن والمهجر إعادة إنتاج تلك التجربة العظيمة التي بدأت تؤتي ثمارها في العالم أجمع. الفرق أن الحاضنة العربية لدعم هذا التوجه السلمي والمؤثر غير متوفرة كما كان الوضع في دول الجنوب الأفريقي، ولذلك سيكون النضال شاقا وعسيرا وطويلا لكنه لا بد إلا أن يؤدي في النهاية إلى نفس النتائج.
خيارات إسرائيل الثلاثة
يقول الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر في كتابه ‘ فلسطين: سلام لا أبرثايد’ إن أمام إسرائيل ثلاثة خيارات، إما أن تذعن لحل الدولتين أو أن تقوم بطرد الفلسطينيين وهو غير ممكن، أو أن تتحول إلى دولة فصل عنصري وهو ما لا يتقبله العالم بعدما حدث في جنوب أفريقيا. نفس الفكرة يكررها توماس فريدمان كاتب ‘النيويورك تايمز’ الأشهر والمعروف بحرصه العالي على سلامة إسرائيل في مقاله الأسبوعي يوم الأحد 16 شباط/ فبراير الماضي، حيث يقول معلقا على السياسة الحالية التي تسير فيها إسرائيل ‘ستقودها إلى واحد من خيارات ثلاثة كلها سيئة: إما أن تقوم بانسحاب إنفرادي من أجزاء من الضفة الغربية، أو أن تقوم بضم الأراضي وإعطاء الفلسطينيين الجنسية الإسرائيلية، وبالتالي تتحول إلى دولة ثنائية القومية، وإذا ما فشلت في اتباع واحد من الخيارين السابقين فانها ستتحول بحكم الأمر الواقع إلى نوع من نظام الأبرثايد تتحكم بشكل دائم في حياة مليونين ونصف المليون فلسطيني’.
إذن أينما تتجه هذه الدولة المارقة بسياساتها فسترتد إليها بعزلة وكراهية وحصار ومقاطعة، ولم يعد هناك من ينخدع بسلاح معاداة السامية، فانتقاد إسرائيل وسياساتها ومواقفها لا يعني كراهية لليهود كيهود، إذ ان حركة رفـــــض سياساتها الاستــــيطانية التوسعية العنصرية لم يعد مقصورا على الفلسطينيين أو العـــــرب أو المسلمين، بل بدأ ينتشر أكثر وأكثر في دول أوروبا الغربية والولايات المتــــحدة الأمريكية واليهود المتنورين والليبراليــين، وهو ما أشار إليه وزير الخارجية الأمريكي جون كيري في مؤتمر الأمن الذي عقد في ميونخ في الأول من الشهر الحالي وقامت عليه إسرائيل كلها واتهموه، كالعادة، بمعاداة السامية.
بساطة الفكرة وفاعليتها
بدأت الحملة التي أطلقها شباب وشابات من فلسطينيي الداخل والشتات في 9 تموز/يوليوعام 2005 بمشاركة نحو 170 منظمة غير حكومية ونقابة ورابطة وتجمع من الداعمين للحق الفلسطيني، وقد استندت في توجهها إلى قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بمقاطعة نظام الأبرثايد في جنوب أفريقيا وناميبيا وفرض العقوبات الجزئية عليه، بحيث لا يستطيع أحد أن يشكك في شرعية تلك الخطوات وانسجامها مع القانون الدولي. وقد حصرت الحركة أهدافها في ثلاثة: إنهاء الاحتلال وحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم وأراضيهم التي هجروا منها، كما ينص على ذلك القرار 194 (1948) والاعتراف بالحقوق المتساوية للعرب الفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية. ولتسليط الأضواء على هذه الأهداف ركز الناشطون على فضح ممارسات إسرائيل العنصرية واعتقالها للآلاف من النساء والأطفال والكهول والناس العاديين وهدم البيوت ومصادرة الأراضي وبناء وتوسيع المستوطنات وبناء الجدار العنصري الذي ابتلع المزيد من الأراضي وغير ذلك من الممارسات التي تعتبر انتهاكا للقانون الدولي، كما تنص عليه اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949.
واختارت الحركة أن يكون تحركها سلميا يشمل مقاطعة الشركات الإسرائيلية والأجهزة المستفيدة من الاحتلال وكافة الشركات الأجنبية المتعاملة مع الاحتلال والمتعامية عن سياسة إسرائيل غير القانونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومقاطعة الأنشطة الرياضية والثقافية الإسرائيلية، ووقف التعاون الأكاديمي بين الجامعات العالمية والجامعات الإسرائيلية. كما تدعو الحركة إلى وقف كافة الاستثمارات في الشركات الإسرائيلية أو الشركات المتعاونة مع قوات الاحتلال.
لقد كانت البداية صعبة خاصة أنها جاءت على خلفية نهايات الانتفاضة الثانية التي سوقها شارون مع صديقه بوش على أنها إرهاب فلسطيني ضد الدولة المسالمة المسكينة التي مدت يدها للسلام مع الفلسطينيين فردوا عليها بالعنف والإرهاب. لقد عدلت حركة المقاطعة هذه الصورة المقلوبة ووضعتها في إطارها الصحيح مبينة حقيقة هذه الدولة الغاصبة التي تضع نفسها بدعم أمريكي فوق القانون الدولي.
لقد أقامت إسرائيل 16 منطقة صناعية في الضفة الغربيــــة، بما فيها القدس، تحوي نحو 1000 مؤسسة صناعية يعمل فيها 21000 عامــل، جزء أساسي منهم من الفلسطينيين المضطرين للعـــمل، رغم أننا نحمل المسؤولية للسلطة الفلسطينية التي كان بإمكانها لو أحسنت إدارة الموارد التي تحت أياديها أن تغنيهم عن عمل مغمس بجراح تصيب كرامة كل واحد منهم.
بدأت الحركة تتسع أفقيا وعموديا وتدخل الجامعات والنقابات والروابط الأكاديمية في الولايات المتحدة، لقد كان للتصويت الساحق في كانون الأول/ديسمبر الماضي لصالح المقاطعة داخل ‘رابطة الدراسات الأمريكية’ عقب تصويت مماثل لجمعية الدراسات الأمريكية الآسيوية وقع الصاعقة على أنصار اللوبي الإسرائيلي هنا، وبدأوا يراقبون الجامعات بشكل أكبر وأدق وأكثر حدية. ونود فقط التذكير بأن قرار صندوق التقاعد الهولندي الذي يملك رأسمالا بقيمة 200 مليار دولا سحب كافة استثماراته في بنوك إسرائيل الخمسة قد أرسل رسالة واضحة للكيان العنصري أن تمثيل دور الضحية الذي خدع الملايين في أوروبا وأمريكا لم يعد مجديا. لقد بدأ القلق الشامل يصل إلى كل الطبقة الحاكمة في إسرائيل، فقد خصصت القناة الثانية في إسرائيل يوم السبت الماضي 15 فبراير 16 دقيقة الساعة الثامنة مساء لتتحدث المراسلة المشهورة دانا وايس من المنطقة الصناعية ‘بركان’ المقامة على أرض سلفيت غرب نابلس وتؤكد أن الحكومة الإسرائيلية ما زالت تدفن رأسها في الرمال، وأضافت ‘العالم يرى بركان نقطة سوداء ورمزا للاحتلال مع أنهم يصرون هنا أنها نقطة ضوء وجزيرة تشير إلى التعايش’. وقد أكد لها مدير مصنع شامير للسلطة أن المقاطعة بدأت تكلفه نحو 130000 دولار خسارة شهريا.
اللوم على العرب
الشيء الموجع والمخجل أنه في الـــوقت الذي بدأ العالم الغربي المخدوع، باليقظة والتحول نحو دعم الحقوق الفلسطينية، يتجــه بعض الأنظمة العربية للتقارب مع إسرائيل وإقامة علاقات عشق سري يظهر منه نزر يسير والجزء الأكبر يبقى خلف الكواليس، بل إن التجارة الإسرائيلية مع نحو 11 دولة عربية في تنام مستمر حـــيث احتلت دولة شمال أفريقية المرتبة الثالثة في حجم التجارة الإسرائيلية مع دول القارة الأفريقية، لكن المسؤولية الأساسية تقع على عاتق السلطتين في رام الله وغزة اللتين تحولتا إلى عبء ثقيل على الشعب الفسطيني وأصبحــــتا جزءا من المشكلة لا من الحل. لقد أساء الانقسام إلى قدسية القضية وأعطى مبررا للكثير من الأنظمة المتخاذلة أصلا للتملص من التزامـــاتها المادية والمعنوية نحو الشـــعب الفلسطيني الخاضع لأبشــــع أنواع القهر والإذلال والعنف.
لقد اقترب موعد الانتهاء من المفاوضات. وكغيرنا نتوقع الفشل، كما أكد كبار المفاوضين وصغارهم أو الاستسلام المهين. توماس فريدمان يتوقع أن تنطلق انتفاضة ثالثة تبدأ في أوروبا هذه المرة غير أننا نعرف أن الأرض في نهاية المطاف لا يحسن حراثتها إلا عجولها كما يقول المثل الشعبي الفلسطيني.
أستاذ جامعي وكاتب عربي مقيم في نيويورك
شكرا استاذي الكبير على مقالك الرائع، برأي الشخصي انه من الخطأ ان تكون تجربة التسع الدول الافريقية في انهاء نظام الأبرثايد درس يحتذى به لدى الشعوب العريية. والسبب في ذلك ان ما مرت به الشعوب العربية من ثورات تحررية ثبت للجميع مدى تورط وارتباط الانظمة العربية بالانظمة الغربية في حمايتها والقضاء على ثورات الشعوب العربية. من ناحية اخرى ثبت تآمر الانظمة العربية في بتقديم مساعدات لوجيستية وغير لوجيستية في سبيل الانتقام من رموز الثورات.
استنتاجي هو ان الشعوب العرببة ليس لديها من يساعدها ويدعمها من اجل العيش الكريم بل هي محاطه باعداء من جميع الاتجهات ولايوجد منفذ واحد لتحقيق العيش الكريم