المقال رقم 99

دخلت موقع «القدس العربي» منذ أيام للبحث عني! عن ذلك الرابط الذي تندرج تحته مقالاتي التي كتبتها في هذه الزاوية، فقد طلب مني أحد الباحثين أن أرسل إليه بعض المقالات التي عبرت عن أفكاري في عدد من المحاور، فلم أجد مكاناً تكثفت فيه المقالات وتعددت فيه القضايا، أفضل من هنا.
أول ما لفت انتباهي أن أربع سنوات كاملة مرت على التزامي بالكتابة في (هواء طلق)، وهي أطول مدة ألتزم فيها بكتابة مقال في حياتي، مع أنني عملت في الصحافة في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، ثمانية عشر عاماً، قبل أن أغادرها. أما ما لفت انتباهي، فإنني كتبت خلال السنوات الأربع ثمانية وتسعين مقالاً، بمعنى أن هذا المقال هو التاسع والتسعون. ولذا أحببت أن أكتب عن تداعيات هذا الرقم، قبل بلوغي المائة!
أعترف أنني كنت أهرب من الالتزام بكتابة مقال أسبوعي، لأنني خبرتُ هذا لأشهر قصيرة، وفي «القدس العربي»، أيضاً، مطلع التسعينيات! واكتشفت، كشاعر وروائي، أن هذا الأمر صعب عليّ؛ كنت أحس خلال ذلك أن وحدة الزمن لديّ أصبحت هي الأسبوع، وليست الدقيقة أو الساعة أو اليوم، ولهذا كنت أرى الأسابيع تهرول أمامي بصورة مرعبة، فما أن أنتهي من كتابة مقال حتى أجد نفسي غارقاً في التفكير في المقال الذي يليه.
حين طلبت «القدس العربي» مني أن أكتب، في تموز/يوليو 2015، مقالاً أسبوعيا، أجبت: إنني لا أستطيع! أما إذا كان ذلك كل أسبوعين، فيسرني هذا! تداول الأحباء في «القدس العربي» في الأمر، لأن كل كتَّاب الصفحة الأخيرة: (هواء طلق)، ملتزمون بمقال أسبوعي. لكنهم كانوا رائعين، بحيث وجدنا هذا الحل: الكتابة مرتين في الشهر.
أحب أن أشكرهم هنا، لأسباب كثيرة، أولها: أن مقالاتي التي أكتبها منذ ذلك التاريخ لم تصطدم بمشاريع قصائدي ورواياتي، فقد ظلت أمور كتابتي تسير بيسر.
أما السبب الثاني لشكرهم، فهو اكتشافي أن وجود مقال يلتزم به الكاتب، يخفف الكثير من الضغط الواقع على روحه؛ ففي زمن تتناسل فيه الشياطين سياسياً وكونياً واجتماعياً، فإن كتابة مقال، رغم المعاناة الشديدة في كتابته، راحة وعلاج من جنون يجتاحك، ولا تستطيع التعبير عنه في قصائدك أو رواياتك. في لحظة ما، تكتشف أن عليك أن تصرخ؛ وبالمناسبة، الصرخات لا يمكن أن تؤجل، ففي تأجيلها مقتلها، على المستوى الخاص والمستوى العام، ومقتل كاتميها كمداً.
وثالث الأسباب، أنني وجدت نفسي، إضافة إلى هذا المقال، قد أنجزت تسعاً وتسعين مقالاً، وهي في الحقيقة أشبه ما تكون بسيرة ثقافية، روحية، تغطي أربع سنوات من الحياة، وهي سنوات انحدر فيها المُنْحَدِرُ أكثر، وتعرّى فيها العاري أكثر، حتى وصلنا لمرحلة نرى فيها أنظمة كثيرة بلا وجوهها وبلا جلودها؛ وبالمناسبة أيضاً: أعتقد أن الذي يخلع قناعه لا نستطيع أن نرى وجهه الحقيقي، فمن لبس القناع لم يكن له وجه أصلاً، ومن أراق ماء وجهه لا مكان له في ذلك الحيز الوحيد، الجميل، الذي يميّز البشر عن بقية المخلوقات، وأعني الكرامة!
أما رابع الأسباب، وربما هو جوهر الأسباب الثلاثة السابقة، الذي بغيره لا يتحقق ما سبق، فهو أنني لم أر الأحباء في «القدس العربي» يشطبون أو يحذفون أي كلمة أو جملة وردت في أي مقال لي، أو يدفعونني للتفكير بأن هذه الفكرة أو تلك ستُحذف، إذا ما كتبتها؛ هذه المساحة من الحرية كانت أمّ الأسباب الجميلة، ولذا أعتز بحفاظنا على حرية وحَّدَتْنا، نحن الذين ندرك تماماً أن شيئاً لم يمزق قلوبنا وعقولنا وأوطاننا، مثلما مزقها العنف ضد الفكرة، والعنف ضد الكلمة، الذي تدفع أوطاننا بسببه أثماناً كثيرة، كبيرة.

ما يحدث في الجزائر والسودان منذ شهور هو اعتذار كبير، من جوهر هذه الأمة، لثورات أُجهضَتْ، وبلاد أصبحت مضطرة أن تحفظ الشمس غيباً، كما كنا نحفظ أناشيد الحرية جهراً، ونهربها لأطفالنا اليوم خلسة

وبعيداً عن تلك الأسباب التي ذكرتها؛ بعد مرور الإنسان على عناوين تلك المقالات، التي يمكن أن تملأ كتابين، حول الحال السياسي والحضاري والإنساني الذي عشناه منذ عام 2015، والوضع الثقافي بما فيه من منعطفات تعيشها الكتابة ويعيشها المثقفون، وتشغل قطاعاً واسعاً من القراء، بعيداً عن هذا كله، فإن تسعاً وتسعين مقالاً تُعدُّ ذخيرة جيدة لكي يتأمل فيها المرء نفسه وأفكاره، وتقلُّبه في مقلاة هذا الواقع الذي لم يُصْلَ بالنار التي تحته وحسب، بل بكل أدوات الالتهام التي تنهش لحمه وخيراته ومستقبله.
ولأعترف، أن بعض المقالات كُتبتْ في موجات غضب راودتني، مثل ذلك المقال الذي كان عنوانه (صهينة العالم العربي)، قبل ثلاث سنوات، ولكنني، للأسف، أكتشف الآن أنني لم أكن غاضباً بالدرجة الكافية! فما شهدناه من صهينة بعد ذلك، فاق كل التوقعات التي هجس بها المقال. وحين كتبت مقالاً حول: (اليهودي الجميل ..الفلسطيني القبيح!) كما طرحتْ ذلك بعضُ الأعمال الدرامية العربية، حينها كنت أعتقد أنني أبالغ، لكن ما أسفرت عنه الفضائيات والاحتفالات والطلعات والمؤتمرات والزيارات، فاق الخيال.
وبعد:
يبدو أن كل الأشياء السيئة التي يمكن أن نتوقعها للعالم العربي يمكن أن تحدث، ولذا يمكن أن يكتبها الإنسان دون أن يكون خائفاً أن يُقال له ذات يوم: لقد أخطأت! لكن، ورغم هذا السوء، ثمة أشياء كثيرة جميلة نكتب عنها وتتحقق أيضاً، وسنواصل الكتابة عنها وحمايتها أيضا، وما يحدث في الجزائر والسودان منذ شهور هو اعتذار كبير، من جوهر هذه الأمة، لثورات أُجهضَتْ، وبلاد أصبحت مضطرة أن تحفظ الشمس غيباً، كما كنا نحفظ أناشيد الحرية جهراً، ونهربها لأطفالنا اليوم خلسة.
وبعد أيضاً:
يمكن أن أقول إن أقسى مشهد رأيته في حياتي هو مشهد البصق في وجه ذلك المدوِّن، في باحة الأقصى، المدوّن الوقح. لكن ما أعطى المشهد بُعده الحقيقي أنني رأيت فيه أن كل تلك البصقات كانت تتطاير، أيضاً، صوب وجوه كل الأنظمة العربية المتصهينة، وكل الزاحفين، والذين زحفوا، على وجوههم لاحتضان قتلة أبناء، لا فلسطين وحدها، بل أطفالنا في كل مكان، وصوب وجوه كل المتذللين لالتقاط الصور مع مُحتلّي، لا فلسطين وحدها، بل الكثير من أوطاننا؛ فمِن حذاء منتظر الزيدي في وجه جورج بوش، إلى بصقات أطفال فلسطين في وجه ذلك المدوِّن، يتدفق نهر يقظة وكرامة، الإذعان خارج قواميسه.
ملاحظة: لم أستطع تأجـيل الفقــــرة الأخــير للمقال التالي، رقم 100.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سوري:

    كبير يا استاذنا ودمت لنا. في مقالك المئة سأشعل شمعة، وأتدفأ على نورها، وأنكش رماد الروح من الألم

  2. يقول أسامة كليّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

    بعد الشكر والتحية أخي ابراهم نصر الله, عقبال الألف إن شاء الله.
    أحب أن أضيف تعقيب أرجو أن يتم فهمه صحيحا. من ناحية المدون السعودي التي يستحق ماوقع له, لكن ردود الفعل بهذه الطريقة لاتؤثر, فهو جندي صغير زج به وكان متوقعا ماذا سيحصل له. أي أن رد الفعل الذي شاهندناه كان مدروسا وهكذا حصل. بمعنى آخر البصاق على وجه جندي صغير لن ينفع, هذا إذا لم يضر!, السهام يجب أن يتم تسديدها بدقة إلى الرؤوس الكبيرة, وهنا احتمالات الإصابة أقوى وتأثير ذلك سيكون أقوى بكثير .

إشترك في قائمتنا البريدية