المقاهي: وجدان ومخزن الشعوب

حجم الخط
0

إنني من رواد المقاهي الدائمين وعلى مدى عقود ثلاثة متواصلة. أعتبر كلّ يوم يمرّ ولا أكون فيه في مقهى، يوما ناقصا لا تتحقق خلاله نزعتي الى الوحدة وطلب الراحة. خلال العقدين الأوّلين، كنت أطالع صحيفة اليوم الى جانب كتاب لا يفارقني، كما معظم روّاد المقاهي في حينه. أما خلال العقد الأخير، ومع انتشار الهاتف الجوّال والحاسوب المحمول، قلّ قرّاء الصحف، لا بل اصبحوا نادرين في الأغلب، وبتّ علامة فارقة في عدم نزعتي الى استعمال وسائل التواصل الإجتماعي في مثل هذه الاماكن، وفي ديمومة تأبّطي للصحف والكتب. استطيع القول انّ ثقافتي العامة نابعة عن استغلالي هذه الاوقات ومطالعتي مئات الكتب والمجلات والدوريّات. أمّا مؤخرا، تعرّضت لحادثة طريفة مع زميلة لي كانت تمرّ أمام مقهى في مركز تسوٌّق. حيّتني من بعيد، وقالت بصوت تهكّمي ضاحك ومحبّب لديّ منها ، سمعه جميع رواد المقهى المزدحم: ‘ تبدو للناظر اليك من بعيد أنّك مثقّف’، ثمّ قبلت دعوتي الفوريّة وشاركتني الجلوس. دار بيننا حديث شيّق لطالما نشدته معها بين الحين والحين. لم تفارق عبارتها الطريفة المؤثرة ذهني طوال أسبوع، عزفت بعدئذ عن المطالعة في المقاهي، وعكفت على مراقبة من حولي بفضول ازداد مع الوقت. لمست حينها ان لمن حولي حضور مسلّ، أدّى الى فضول لم أتعوّد عليه منذ نشأتي. بدأت أشعل الغليون بين الحين والحين، وأحتسي القهوة السوداء، وأرقب العابرين، من حسناوات جميلات يقدن جيبات الدفع الرباعي وسيارات السبور، وكهول متوسّطي الحال يحملون الخضار والفوكه والمعلّبات في أكياس نايلون شفّافة. كذلك عبور حافلات الأجرة التي لا تقلّ سوى العمالة الاجنبية في الغالب، كما مراقبة شرطي البلدية في وسط الشارع، وكيف أنّه يسجّل مخالفات سير غيابيّة جائرة بحق السائقين العابرين، ثم يُشعل سيجارة ويزرع أبتسامة عريضة على وجهه المتخلّف بعد تسجيل كل مخالفة. أمّا روّاد المقهى الدائمين فأصبح لي معهم مسلسلات فضوليّة عفويّة جعلتني أدرك بعض أمورهم الخفيّة الخاصة. يحصل ذلك مع الذين يجلسون حولي ولا يأبهون لآذان لا تسترقّ السمع جاهدة بل يتكلّمون كما لو أنّهم في غرف نومهم وبحميميّة بالغة وقحة. صرت أعرف العاشق الولهان المنتحل صفة سائق سيارة أجرة، والغاوية وبناتها, والثري الذي يتسرّق الحديث مع الإبنة الكبرى كلّما غفلت الام عنهما خلال حديثها مع جليسة أخرى، والمرأة التي تلبس الكعب العالي وتتّكىء على زوجها حتى تحافظ على توازنها قبل وصولها الى الكرسي، ثم حديثها الصاخب معه حول جارتها الشقراء – التي هي زميلته في العمل وكيف أنّه يقلّها في سيارته كل صباح، دون أن تذهب هي في سيارتها. ولا يضير القارىء الكريم إذا حدّثته أيضا عن اللعوب التي تلبس الشورت القصير جدّا وبعضا من بقايا صدريّة، وتتغاوى في غنج ودلع ووله، وًتُربكُ الناظر اليها، وقد أصبح الخجل عندها ‘موضة’ قديمة. ولا أنسى الأم المتصابية التي تسفر عن كامل بطنها وظهرها العاريين، وإبنتها المحتشمة التي يقطر خدّها خجلا وارتباكا وصمتا معبّرا.
لقد أصبح حضوري في المقهى تافه وسطحيّ ووقت ضائع لن أقوى على الإستمرار فيه إذا لم أعُد الى عهدي السابق مع الصحيفة اليومية، والكتاب الذي دائما أجلّده بالورق الأبيض، حتى لا يعرف أيّ فضوليّ محتواه، مع لصق سعره على الصفحة الأولى حتى لا يدّعي أحد في المكتبات التي أزورها أنه مُختلس. سوف لن أنسى عبارة زميلتي الرائعة الجمال بل سوف لن أتوقّف عن المطالعة في المقاهي سوى عندما تكون في معيّتي، لان حضورها الدافىء يختصر كل الكلمات وموسوعات المعرفة وتطلّعاتي الفكريّة.
سعد نسيب عطاالله – لبنان
[email protected]

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية