الخارطة السياسية والعسكرية في محافظة إدلب السورية بعد إحكام “هيئة تحرير الشام” سيطرتها عليها وعلى مناطق تواجد المعارضة في أطراف حلب وحماه قد رُسمت إلى حين، ما يطرح السؤال حول الآتي المنتظر؟
في قراءة التحوّلات على الأرض فإن المتابعين على ضفتيّ المؤيدين والمعارضين لتركيا، يرون أنها المستفيد الأول. ما حصل يُعزّز موقع أنقرة على الطاولة، فهي مدخل الحل والربط فيما يتعلق بالشمال السوري، لكن مآل الميدان يُحدّد مدى الحاجة إليها والأثمان المترتبة على ذلك.
لم تُشكِّل “هيئة تحرير الشام”- وهي “جبهة النصرة” سابقاً (جبهة فتح الشام) عامودها الفقري – لدى بعض المراقبين، مفاجأة لجهة قدرتها على حسم المعركة، بل لجهة سرعتها في الإجهاز على الفصائل المسلحة الرئيسية الأخرى، ولا سيما “حركة أحرار الشام” و”حركة نور الدين الزنكي”. ثمّة من يرى في النتائج الأولية، على مستوى “الثورة السورية”، ضربة قاصمة لما تبقى لها من بعد وطني ونسيج داخلي.
فـ”حركة الزنكي” خرجت من لدن أبناء الشمال السوري كفصيل محلي معتدل التوجهات نجح في خلق حيثية على الأرض، ويشكل الانقضاض عليه في عقر داره تصفية لطبيعة تكوينه. النقاش هنا لا يتعلق بحجم ارتباطه بتركيا أو تأثيرها عليه، ذلك أنها الشريان الحيوي أو جسر العبور في السياسة والجغرافيا والسلاح والمال لفصائل المعارضة هناك، ولا بد من غطائها مهما كَبُر أو صَغُر. أما “حركة أحرار الشام”، فهي تُعتبر الفصيل العسكري الأكبر العابر للساحة السورية، يُضفي تنوّع قياداتها وتوزعها المناطقي عمقاً محلياً، وهي تحمل في نهاية المطاف مشروعاً عقائدياً، يتم تصنيفه على أنه مشروع إسلامي معتدل، بالمقارنة مع تركيبة “هيئة تحرير الشام” العقائدية. وكان الاعتبار السائد لدى كثيرين، من القوى الإقليمية والدولية، بأن “أحرار الشام” تلك يمكنها أن تكون الرافعة في أي عملية عسكرية داخلية ضد “الهيئة” التي يتم التعامل معها بوصفها “جبهة النصرة” المصنّفة تنظيماً إرهابياً.
اليوم بات الرهان على وجود فصائل معتدلة في محافظة إدلب والمناطقة المجاورة ساقطاً كلياً. وأضحت “هيئة تحرير الشام” هي سيّدة الأرض هناك. فهل تريد تركيا إرسال هذه الرسالة لمن يعنيهم الأمر؟ أم أن زعيم الهيئة أبو محمد الجولاني قام بهجوم استباقي في معرض حماية خاصرته من طعنات داخلية إذا ما دقّت ساعة المواجهة؟ قد يصح الاستنتاجان معاً.
ففي مقاربة العلاقة بين تركيا و”النصرة”، ثمة مفهومان يُحيطانها: الأول ينطلق من أن العلاقة هي علاقة تبعيّة ولا فوارق في التفكير العقائدي بينهما، لا بل إن “النصرة” هي جوهر وخلاصة الفكر الإخواني. وتُعتبر، على البعد التنظيمي، تنظيماً حديدياً صلباً متماسكاً وقوياً، أغلب قياداته من الأجانب بعديد سوري، وبالتالي حين تدق الساعة، ينتقلون إلى بقعة أخرى كجهاز قيادي، ويتم تشتيت القاعدة المحلية.
أما المفهوم الثاني، فيبني نظريته على أن العلاقة هي علاقة تقاطع مصالح مشتركة، وعلاقة تنسيق وتواصل مع المحافظة على كثير من استقلاليتها، لأسباب عدّة، منها ما يعود إلى وجود فوارق في العقيدة ومنطلقاتها. ويرون أن اعتبار “الهيئة” دمية بيد تركيا فيه كثير من “التسخيف” للواقع. في رأي هؤلاء أن الجولاني أقدَمَ سابقاً على مجموعة خطوات، بالتنسيق مع تركيا، من أجل رفع الضغوط عنها وإعطائها حيزاً من المناورة. تلك الخطوات تمثلت في تصفية زعيم “النصرة” لمجموعة قيادات أجنبية من رؤوس “تنظيم القاعدة”، وغضّ النظر عن مجموعات أخرى انضوت تحت اسم تنظيمي جديد هو “حرّاس الدين” يتواجد في مناطق “الهيئة”، فيما تمثلت الخطوة الثالثة في تغيير اسم “النصرة” إلى “جبهة فتح الشام” لإخراجها من التصنيف الأمريكي لها كمنظمة إرهابية، قبل أن تُؤلف وفصائل أخرى “هيئة تحرير الشام”. كما أن “جبهة النصرة” لم تمسّ بالأمن التركي على خلاف ما فعله “تنظيم الدولة الإسلامية”. وهي تولت مواكبة وحماية قوات المراقبة التركية التي دخلت المنطقة العازلة التي نصّ عليها “اتفاق شوتسي” بين موسكو وأنقرة حول إدلب، يوم كانت روسيا والنظام السوري عازمين على القيام بعملية ضد إدلب في سبتمبر/ إيلول 2018، على الرغم من معارضتها لخيارات تركيا السياسية في “إستانة” و”سوتشي”.
الانطلاق من قاعدة “تلاقي المصالح وتقاطعها” في لحظة سياسية حرجة بالنسبة للأتراك، يمكن معها القيام بعملية استنباط واستشراف في آن. وفق بعض المتابعين، فإن تركيا، التي تضع مسألة منع قيام كيان كردي سوري في سلّم أولوياتها وتعتبره مسألة حياة أو موت بالنسبة لها، تواجه غموضاً من واشنطن حيال كيفية معالجة الوجود الكردي المسلح في شرق الفرات بعد إعلان الرئيس الأمريكي قراره بالانسحاب من سوريا، وتردداً في هذا الملف. والغرب عموماً يُقلقه ازدياد قوّة التنظيمات المتطرّفة التي تحتضن جهاديين أجانب والذين يمكنهم التسرّب إلى دولهم وتنفيذ عمليات إرهابية.
وبالتالي، فإن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بغضّه الطرف عن العملية العسكرية التي قامت بها “الهيئة” أصاب أكثر من عصفور بحجر واحد: هو أصبح لاعباً أقوى، وعلى العالم اليوم أن يتعامل مع حقيقة أن التنظيم الأشدّ تطرفاً والأكثر تنظيماً والإرهابي التصنيف هو صاحب الكلمة الفصل في هذه المنطقة، وأن الوصول إليه دبلوماسياً أو سياسياً أو عسكرياً، يمرّ عبر البوابة التركية. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن ملاذ الفصائل المسلحة التي خرجت من مناطق “الهيئة”، هي المناطق الواقعة تحت السيطرة التركية، والتي قادت فيها “درع الفرات” و”غصن الزيتون” عمليات عسكرية بغطاء تركي ضد الأكراد، ما يعزز تلك القوات، في حال ذهبت تركيا إلى خوض مواجهة عسكرية كما تلوّح ضد الأكراد في شرق الفرات، الذين تحميهم واشنطن وتموّلهم بالسلاح والعتاد.
حسب تقييم معارضي ومؤيدي حكم اردوغان، فإن الرجل قد ربح، حتى لو تمّ النظر إلى العملية العسكرية من زاوية أنها حرب استباقية قام بها الجولاني للقضاء على ما قد يعتبره “الخناجر المسمومة” التي يمكن أن يطعنه بها الأتراك والروس من خلال إشعال حرب داخلية. الربحية هي أن هناك ثمناً لا بد من أن تحصل عليه تركيا عند التعاطي مع الوقائع القادمة في إدلب. الحرب من الخارج لها أكلافها على الجميع. هذا يجعل ورقة المقايضة لتفادي تلك الأكلاف الكبرى ورقة قوية، والكلام هنا يتناول الروس بشكل أساسي. الروس الذين لا يقبلون أيضاً بسيطرة تركية على شرق الفرات المليئة بالثروة النفطية والمائية والغذائية. وهم حماة للأكراد أيضاً، ما يجعل دخول النظام السوري إلى تلك المنطقة “حلاً نموذجياً”. بالطبع الصورة تبدو مشوّشة وغير مكتملة ما دام القرار النهائي لترامب في شأن وجوده العسكري في سوريا ومستقبل حلفه مع الأكراد لم يتبلور بعد.
الأكيد أن مسألة شرق الفرات ليست مفتوحة على مفاجآت كبرى، لأن ما سيحصل هناك لا يمكن أن يتم من دون توافقات كبرى أمريكية – روسية، وروسية – تركية، وتركية – أمريكية، مهما حاول اللاعبون المناورة أو تحسين أوراقهم. وما هو أكيد أيضاً أن تركيا سبق أن دخلت في لعبة مقايضة مع الروس ومع إيران على المسرح السوري، وحلب كانت الأكثر وقعاً، الأمر الذي يدفع إلى الاعتقاد بأن أفق اللجوء إلى ورقة المقايضة بين إدلب والشرق السوري مفتوح. كما أن نظرية بعض المحللين بأن سيطرة “الهيئة” الكاملة على إدلب وبعض مناطق الجوار هي “عملية تسمين للأضاحي” قد تجد مكاناً لها.
على أن نظرية “تسمين الأضاحي” تُقابلها نظرية تدعو إلى عدم التقليل من شأن الجولاني وتنظيمه، وتستند إلى أن فكر الرجل العسكري يقوم على المنطق الاستباقي والتعامل مع الخطر قبل حدوثه. وهذا جرى تطبيقه سابقاً على فصائل المعارضة التي كانت محسوبة على الأمريكيين، والآن يمتد إلى الفصائل المحسوبة على الأتراك. فـ”حركة الزنكي” تحمل الرقم الحادي عشر في لائحة التصفيات و”حركة أحرار الشام” هي الثانية عشرة. أصحاب هذه النظرية يرون أن “هيئة تحرير الشام”، التي تُمسك راهناً أو على وشك الإمساك الكلي بنحو عشرة آلاف كيلو متر مربع، أي ما يقارب مساحة لبنان، أقدمت على هذه الخطوة على خلفية الخلل في موازين القوى على الأرض، بعدما استطاعت أن تقضم تدريجياً الفصائل الأخرى وتخلخل بنيانها، في خطوة هدفت من خلالها إلى حماية موقعها تحسباً لمعركة آتية لا محالة.
ولعل السؤال المفصلي الذي لا بد من طرحه على وقع تحوّلات الخريطة العسكرية والسياسية في إدلب هو: هل ما زالت الاتفاقات من “إستانة” إلى “سوتشي” قائمة أم أنه أطيح بها نهائياً ولم تعد قابلة للحياة والترميم… وأي بديل هو الآتي؟