■ انهمكت بعدّ النقود لتصنفها في رزمٍ صغيرة وهي تقول بحماسة: «هذه ثمنُ أدويتك، وهذه لأدويتي، وهذه لفاتورة الكهرباء، وتلك للمياه، والباقي لمصروفنا هذا الشهر. لحظة، سيفيضُ مبلغ قد أغيرُ فيه ستائرَ غرفة المعيشة».
كان يستمعُ لها وهو مطرقٌ بصمت، ثم ليقولَ ساهماً كأنما يحادثُ نفسَه: «هل تذكرين كيف كان صياحي يملأ البيت وأنا أوبخه على تدني علاماته؟ هل تذكرين كم مرةٍ قلتُ له إنه مشروع فاشل؟ وكيف كنتُ أشده بقسوة ليرى شهادات أخويه المدرسية؟ ثم لأصب على رأسه ما تبقى من طقوس التوبيخ؟».
ردت بهدوء: «ربي يرضى عنه، هو المتكفل بما ينقصنا من مصاريف هذه الأيام، راتب تقاعدك لا يكادُ يكفي أدنى الاحتياجات، وهو يساعدنا عن طيب خاطر، إضافة إلى أن… «قاطعها قائلاً : «أعرف، لكن ضميري يؤلمني كل مرةٍ يُسلمني فيها هذه النقود، إلهي كم ظلمته، هل تذكرين كيف كان يفك ألعابه ويُعيدُ تركيبها بدقة؟ وكيف كان يتصدى لإصلاحِ أي جهازٍ كهربائي في بيتنا، أو في بيوت الجيران؟ وكيف كنتُ أستقبله بالشتائم لحظة عودته؟
كنتُ كلما التقيتُ بأحد الجيران حتى يبدأ بكيل المديح على حُسنِ تربيته وأخلاقه حين يحتاجونه، وكم همسَ لي بعضُهم بامتنان أنه كان يرفضُ تقاضي أجرِه من البيوت العفيفة، وأذكرُ أني كنتُ أقاطعهم دائماً لأردد بغضب أنه في المرحلة الثانوية، وليتهم يرون شهاداته وشهاداتِ أخويه أولاً قبل إعلان إعجابهم به، وكم كررتُ أمامهم أن حظي التعس هو الذي جعلني أباً لمثله!».
أجابته بهدوء: «رغم ذلك كله فقد نجح، اجتاز امتحاناته بمعدل متواضع نعم، لكنه نجح». فأضاف بأسى: «نعم، وليته سمع مني كلمة مبروك، بل بدأتُ ألح عليه بدخول الجامعة، ثم لتقومَ قيامتي عليه لأنه رفض مكتفياً بدورةٍ تدريبية للحصول على الدبلوم في معهدٍ تقني، وغضبتُ منه، ولم أكلمه بعدها لأسابيع، ثم ليجن جنوني حين ابتاع لنفسه حاسوباً من دخله الخاص، كنتُ أدخلُ غرفته كل حين لأوجه له كلمةً جارحة، أو انتقاداً لاذعاً، لأذكره بأخويه اللذين تخرجا وتوظفا، هذا كله بدون أن أعلم أنه كان يقضي وقته في متابعة المستجدات الفنية في عالم الكهربائيات». قالت بشيء من الزهو وهي تذيبُ السكرَ في الشاي أمامه: «الحمدلله، توظفا في مواقع ممتازة، وهو فتحَ ورشته الخاصة مؤخراً، ربي يسعدهم جميعاً».
فأجاب برنةٍ ساخرة: «نعم، توظفا، أحدهما محاسب في شركة يعملُ بها طوال النهار مقابل دخلٍ لا يكادُ يكفي مستلزمات بيته وعائلته، والآخر تحول إلى موظفٍ حكومي في دائرةٍ يتثاءبُ فيها أكثر مما يُنتج، وأعلمُ تماماً أنه يساعدهما مادياً في الخفاء، فلا هو يُصرح، ولا هما يعترفان لي!».
وعاد ليرمق النقودَ وهو يتناول كوبَ الشاي، فأحسَ برجفةٍ مربكة تجتاح كيانه، وبدمعةٍ أبتْ إلا أن تفر من عينيه عنوة، هنا، سارعت هي بإعادة الكوب إلى مكانه، وخرجت بصمت حتى لا تشعرَه أنها لاحظت ما يجري. مرت لحظات، فناداها بصوتٍ شابه الانكسار ليطلبَ منها الاتصال به، شعرَ فجأةً بحاجةٍ ماسةٍ لسماع صوته، لبت الطلب، أمسك الهاتف محاولاً أن يقولَ شيئاً فلم يستطع، في الوقت الذي كان فيه ابنه ينادي بقلق: «أبي، هل أنت بخير؟ هل أمي بخير، هالو أبي، أرجوك، بدأتُ أقلق، هل آتي إليكما؟». مضت لحظاتٌ بينهما كالدهر، ليقولَ أخيراً وهو يُغالبُ غُصةً اعتصرت قلبَه: «نحن بخير يا غالي، أحببتُ أن أسمعَ صوتك لا غير». وأغلق الهاتفَ مُنهياً المكالمة وهو يعي أنها المرة الأولى التي يتحدثُ فيها مع ولده بهذا الدفء فتوجه إلى غرفته ليُسلمَ نفسَه لموجةٍ من البكاء المرير.
٭ كاتبة أردنية
رائعة كالعادة دكتورة … كتاباتك تمس شغاف القلب
انا عندي ولد مثله اتوقع واتمنى من الله ان لا اكون ظلمته اخوه الكبير مهندس والثاني طبيب عظام وأخته مديرة بنك وهو لم يتمكن من الحصول على التوجيهي ولذلك يرفض ان يعمل اويدرس خوفا من المقارنه معهم الله يهديه في يوم من الايام
الفروق الفردية في الانجاز لاتعني ان الأقل إنجاز هو فاشل لكن هي قدرات وبالطبع الانسان قد يغير مسار حياته الاقتصاديه والاجتماعيه اذا احسن التصرف وان لم يمتلك اعلى الشهاده لكن يبقى الحنان والامل وزرع الثقه مهم حفظ الله الجميع
كلمات رائعه تلامس الواقع وكأنها تحكي قصه كل بيت…ليت الجميع يدرك ما تهدف اليه القصه ..ويترك الاختيار لصاحبه ومستقبله
كلام جميل وعقلاني رائعه دكتوره
جميل..ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات ليتخذ بعضكم بعضا سخريا
كعادتها دائما مبدعة وتمتعنا بما تجود به.
واقعية تنطبق على الكثير من الأباء لحرصهم على مستقبل أولادهم ،ولكنها مؤثرة..
لدى الآباء والأمهات فقر في المعرفه فقر في التربيه. اصلا قد يكون الأبوين سببا في إحباط احد الأبناء او الأبناء كلهم. لان الجهل الفكري معشش في اذهانهم لا يعرفون إلا أن يكون الابن الأول على الصف ولو بالكذب او علامات الابن عاليه تلامس السحاب.
اما الحاله النفسيه فهي آخر همهم.