أصل قبله.. عصير الليمون الحامض يفي بالانتظار.
ماذا لو؟ هامشُ ممكنٍ أتركه مفتوحا على احتمالاتٍ مثل «حدسك يتوهّم»… «قد يكون مختلفا»… «إعطِ نفسك فرصة».
لكنني أمقت الاحتمالات.. لا يقين فيها.
لا بدّ مع ذلك من أن أجتنب «التهوّر، والسبق إلى الحكم قبل النظر، وألا أُدخل في أحكامي إلّا ما يتمثّل أمام عقلي في جلاء»، فلأنتظر إذن عملا بنصيحتك يا ديكارت.
المقهى مغمّ. شبه فارغ باستثناء طاولة مشغولة في الداخل. أستغرب. أهو التوقيت أو اليوم من الأسبوع أو أسعار الطعام الباهظة؟ التدفئة خفيفة في الجزء الخارجي المسقوف حيث أختار الجلوس. إنارة خافتة تخنق. أجول بنظري في المكان محاوِلة تشريح عقل مهندس ديكوره الذي ارتأى أن يكون الأثاث مشوّش الهويّة هكذا. مقاعد من خيزران تطوّق طاولات بيضوية داكنة الزجاج. كراسٍ خشبية ملوّنة تصطف إلى جانبَي طاولات مربّعة تعلوها فوانيس بشموع بطارية. مصابيح في الزوايا تنتصب، أغطيتها بيضاء جِرْسية الشكل تخلو من أي لفتة تصميمية. نبات معربش كثير يحجب رؤيتي عن الخارج. ألمح هامة طويلة تتحرّك باتجاه المدخل، حركة معتدلة السرعة، كتفين مستقيمين يوحيان بثقة مفرطة، خصل شعر أمامية قصيرة تقفز مع خطوات ستّ.. يدخل! عشرون دقيقة من الانتظار… لا نَفَسي ينقطع ولا معدتي تنكمش.. تباً!
الخيمياء اللعينة…
سلام وكلام وابتسام فطعام. يضع بعضا منه في صحني. بادرة جيدة. «حدّثيني عنكِ»، يقول لي وهو يقضم لقمة بيتزا عريضة ويرفدها بحشائش كثيرة من سلطته. بادرة سيئة. «فلنبدأ بكَ»، أجيبه من باب إعطاء نفسي فرصة ريثما يسترجع دماغي قانون الديناميكا الحرارية القائل إنّ «الطاقة لا تفنى ولا تُستحدث، بل تتحوّل من صورة إلى أخرى..». طاقتي، لسببٕ أحاول تجاهله، هامدة. لا بدّ من أنني مثال حي على النظام المعزول في ذاك القانون الذي «لا يحدث فيه انتقال للحرارة بين الكتلة والوسط المحيط». لا أتأثّر به… تعجز طاقتي عن هضم كلماته التي تصل أذنيّ بعيدة. أهزّ رأسي. لن يحسّ ببعدي بأي حال. يشغله التنقّل بين الصحون. أضيع بين خيمياء وفيزياء. أقرّر أن أتحداهما. يسعفني معطفي الخفيف. لم أتوقّع أن يشتد البرد هكذا. أقول إنني أتجمّد. يدنو مني ويضمّني إليه، مداعبا ذراعي فيُدفئني. لكنّ حرارتي الداخلية لا ترتفع. أخسر التحدي.
هكذا إذن، العلوم تتآمر عليّ بالتواطؤ مع مهندس ديكور المقهى. لو أنه استعان بطبيب نفسي لما أتى بهذا التصميم الفوضوي المحبِط غير المتناسق في شيء! بسببه لم تتفاعل طاقتي مع المحيط، وبالتالي عطّل ارتفاع حرارتي النوعية وانتقالها إلى الرجل أمامي. على الرغم من وسامته وهندامه العصري الباهظ وجسمه الرياضي، رأيت المكان متجسّدا فيه. أركّز من جديد في حديثه شبه الأحادي. ثقافته عالية. أنصت إليه…عقليا فقط. لكنّ جسدي يخذلني. أشعر بالنعاس. الساعة تقرب من منتصف الليل. وإن يكن؟ ما من سحر سيزول عند الدَقة الثانية عشرة، و»الأمير» المتمثّل أمام عقلي وصل متأخّرا. وحاول الوصول عند الوداع إلى شفتيّ وعنقي وفراشي مبكرا.
نظرتُ بلا تهوّر على مدى ساعتين ونصف الساعة وتيقّنت أنّ اختيار المكان ليس عبثيا. وأنّ الاحتمالات مجرّد محاولات بائسة لن تقوى يوما على قوانين الطبيعة.
كاتبة لبنانية