كانت المكتبات ولا تزال تأخذ بلبابي وتفتنني، منذ كنت في اليفاع وفي السنوات الأولى من بدء عالم جديد، وتحديداً في العشرين من عمري، فقبلها كنت أقرأ دون تعيين ما يصادفني من كتب، علمية، تراثية، دينية، تاريخية، كتب غير منتظمة ومبعثرة، كسنوات بدايات حياتي العادية، تعليم، جندية، وظيفة، وهكذا دواليك، لكن ما أن تخطيت العشرين حتى رحت أنظم نفسي وأنسق رؤيتي، وأرتّب ذاكرتي، فبدأت أفتش عن المكتبات، وما أكثرها في العراق، ففي كل منطقة ومحلة مكتبة تابعة للبلدية، وهذه البلدية تكون بدورها تابعة لوزارة ما، هذا ناهيك عن المكتبات العامة، وكانت بغداد تعجّ بها، بدءاً من «سوق السّراي» المسقوف والمعتم، ذي العطن الورقيّ الواضح الرائحة، تلك الرائحة التي لا يخطئها الأنف في هذا السوق الظليل والمبلل بالأفياء، وهو سوق للكتب القديمة والجديدة، ثم يأتي «شارع المتنبي» المجاور له، وهو سوق عبارة عن معرض كتب مفتوح ودائم طوال العام، مخترقاً الفصول والأيام والسنوات، إضافة الى مكتبات «السراي» و»المتنبي» هناك مكتبات «ساحة التحرير» في «الباب الشرقي» ومكتبات «شارع السعدون» أيضاً وصولاً إلى « الكرّادة» وما جاورها من أمكنة.
في تلك السنّ البدئية، رحت أؤسس مكتبتي الخاصة، في بيتنا الشرقي البغدادي. مكتبتي كانت انتقائية، شعرية، روائية قصصية، مسرحية على نقدية، ثم توسّعت لتشمل الكتب الخاصة بالفن التشكيلي والسينما. هذا ما كان في البيت، مكتبة صغيرة متواضعة في الشكل والحجم والنوعية، لكنها كانت تسدّ حاجتي للقراءة في المنزل، أما خارج المنزل فكنت أذهب إلى «المكتبة الوطنية «، وهي مكتبة حكومية، كل مطبوعات وزارة «الثقافة والإعلام» القديمة والحديثة كانت متوفّرة فيها، ناهيك عن الكتب العربية، كانت هذه المكتبة أكبر عون لي من ناحية التثقيف الذاتي، وبناء العمود الفقري لمساري الحياتي، وأكبر أخ لي في إسداء العلم والثقافة، وتاريخ الآداب والفنون، دون مقابل يذكر أبداً.
هل المكتبة هي العالم، هي الكون، هي الحياة الموازية لحياتنا؟
بورخيس المعلّم الساحر لفن القصة، والكاتب الأرجنتيني الذي فقد بصره، ربما من كثرة القراءة، كان يرى المكتبة متاهة كونية، هو القارئ النهم، قارئ الحياة والكون والغامض في الحياة، من خلال بصيرته التي ترى غير ما يراه الآخرون. أمبرتو إيكو الإيطالي صاحب «اسم الوردة» كان قارئاً من طراز خاص، له مكتبة لا تضاهى، مليئة بمجلّدات لا تحصى، كانت لديه آلاف الكتب، والمخطوطات النادرة والمُنمنمات الباهرة، في علوم السيمياء، وعلوم اللاهوت، وعلوم وتاريخ وحياة القرون الوسطى، تلك التي كان يستقي منها عوالمه وأسراره الفنية والدلالية، كل هذه المُصنّفات ستكون المرجع الضامن لكتابة عمل نقدي، أو بحثي، أو كشفي، أو علمي، أو أدبي وروائي وقصصي.
من هنا المكتبة هي عالم واسع بحد ذاته، ذو دروب وأروقة وصالات ورفوف متوالية، ليس له من نهاية. فمكتبة إمبرتو إيكو هي دهليز عميق، من المعاني والرؤى والتوقّعات من أجل حلّ لغز الحياة والكون والعالم. كل شخص محب للقراءة هو مكتبة بحد ذاته، هو ورّاق وطبّاع وصانع كتب وأحلام، كل شخص مُحب للقراءة بالضروة سيكون جزءاً من عالم ورقيّ، عالم مبنيّ بالكلمات والمعاني والدلالات، كل شخص يبيع الكتب هو جزء من عالم الورق، عالم الحبر والخطوط والأسطر والحروف، وكل طبّاع لكتاب هو في الحقيقة بنّاء لعمارات رؤيوية وخيالية، فالحقول كتب أيضاً، والأشجار كتب وورق ودلالات. كولن ويلسون الروائي والفيلسوف صاحب «اللامنتمي» كانت جدران بيته تتكون من الكتب، كان محباً للكتب، يقتنيها، يقرأها أو لا يقرأها، فهي في النهاية تشكل له نوعاً من الحب، نوعاً من العلاقة الغرامية، نوعاً من زمالة وصداقة ورقيّة، هو الذي لم يدخل الجامعات والمدارس العليا، بل الكتاب هو الذي صنع منه عالِماً، وروائياً، وناقداً، ومؤلفاً لكتب علمية، وفلكية، وسحرية، وخيمائية، وصنع منه كائناً شهيراً، معروفاً في كل الأوساط العلمية والأدبية والجامعية، هو الذي لم يتلق تعليماً نظامياً.
العظيم كارل ماركس، كان قارئاً مثالياً، ومكتبة لندن تبقى شاهداً على هذا العبقري الكبير، الذي كان يُقضّي جلّ وقته فيها، باحثاً، فاحصاً، نابشاً أسطر التاريخ كلّه، ومستغوراً طبقات المجتمع كلّها، المُلِم بالعوالم القديمة والجديدة في عصره، والشخص الصبور والمثابر، حتى آخر رمق من حياته في سبيل البشرية، كي تتقدم، كي لا تُظلم من قبل حكّام جاهلين وطبقات عليا، تجعل من الناس عبيداً لديها، يعملون بالسخرة، من أجل إدامة راحتها على حساب المجتمعات الفقيرة، والمستنزَفة، والعاملة ليل نهار لدى المستغِلّين من الطبقات المنتعشة، تلك التي تراكم الأموال عبر استثمار واستغلال واستهلاك يد الكادحين. المكتبة أعانت ماركس كثيراً في تحقيق ما كان يصبو إليه، وأعانت كتّاباً كباراً على تسطير منجزهم الإبداعي، بدءاً بالجاحظ الذي كان ضحية مكتبة، أي مكتبته الكبرى التي سقطت عليه، ثمّ أبو حيان التوحيدي كان هو نفسه عبارة عن مكتبة، المتنبي الذي أّذهل زمانه بشعره، كان وهو صغير يقرأ عند الورّاقين وهو واقف، يحفظ الكتاب في ذهنه، كونه لم يكن يمتلك ثمن الكتاب.
إذن المكتبة عالم قائم بذاته، عالم من سطور وكلمات وحبر وورق، عالم تمور فيه حيَوات وأساطير ودُنى، عالم يتشكل من حكايات وسرود ومرايا عاكسة، تعكس الأزمنة والأمكنة، قصص هي المكتبات، كمكتبة الإسكندرية وغرقها في زمن بعيد، ومكتبة المستنصرية ودورها في العلم أيام الأزمنة العباسية، وكذلك دار الحكمة أيام الخليفة العباسي ودورها في تنشيط الفكر والأدب والإبداع لدى العامة. مكتبة الإسكندرية ها هي تعود بوجه آخر، بوجه حافل بالإبداع والابتكار والتأليف.
ثمة مكتبات رأيتها في تونس والرباط ومراكش، في بيروت ودمشق وبغداد والقاهرة وعمّان، تُظهر لهفة الناس إليها، حين تدخلها وترى الرواد وهم مستغرقون بين تصفيح وتقليب وقراءة وشراء، فرحين بما اقتنوا من كتب في تسوّقهم هذا، مكتبات تترى، واحدة تبتكر الأخرى، واحدة تنجب الثانية، ثمة مكتبة صغيرة تتوسّع، لتصبح مكتبة كبيرة، وثم مكتبة تصغر وتتحوّل الى محل لبيع القرطاسيّة، فالمكتبات الطموحة، التي لديها أحلام وخيال واسع، هي التي كانت يوماً ما تعيش على الرصيف، ثم كبُرتْ لتتحوّل الى مكتبة واسعة، مكتبات الرصيف شيء مذهل حقاً، أحبّها كثيراً، أعشق مكتبات الرصيف، في كلّ من بغداد والقاهرة ودمشق وبيروت وعمّان، وتونس وطنجة، وكذلك المكتبات النهرية، هذه التي تمتدّ على رصيف «السين» في باريس ورصيف نهر «التيمز» في لندن، كتب رطبة ومعتمة وتنتمي الى زمن سابق، ورقها يشي بالعتاقة، وهي كتب تختلف في طبعاتها عن الكتب، التي نراها الآن في المكتبات، فهي تنتمي الى عالم الحداثة، في الرؤية وفنّ التصميم والإخراج والطباعة الأنيقة، هذه التي تسترعي الانتباه والتوقّف وإلقاء النظرة عليها، ثمّ التصفّح والتقليب، وغالباً الذي يُقلّب ويتصفّح يميل إلى الشراء، خصوصاً إذا كان في ذهنه يدور محتوى الكتاب، ومدى أهميته، الفكرية والأدبية والعلمية.
شاعر وكاتب عراقي