كان آذار يبكي، ليس كبكاء شباط، في أيّامه الأولى على الأقلّ.. بكاء متقطّعا هامسا، وزاعقا أحيانا، وأمسِ ليلا.. هطل مطر خفيف على الصَّفرة، هطل طول الليل، ثمّ صفت السماء، وظهر القمر نحيفا في النزع الأخير من الشهر القمريّ، رآه الملا سعيد حين خرج إلى مسجده عند الفجر، وأذّن للصلاة. ثم صلّى ركعتين في انتظار المصلّين، أخرج من جيب اليلك (الصُّدَيري) ساعته، فدغدغت سلسلتُها الباردة يدَه الرطبة من أثر الوضوء. حضر بضعة مصلّين يرتدون فرواتهم الثقيلة المبطّنة، وصلّوا وراء الشيخ، وخرجوا مسرعين، لكنّ القمر النحيل استوقف الملا، وذكّره بقريته البعيدة في الشمال، فهزّ رأسه وهو يقرأ وِرْدا لطيف الكلمات، يختمه بآياتٍ من آل عمران جهر بأوّلها: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ..» وخفَتَ الصوتُ قليلا: «وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِما بِالْقِسْطِ». فوقف فوق الطّاء، ولم يسعفه الهمس في أن يقلقل الطاء، ولم يتأسّف لذلك مثلما كان يصوّب للفتيان، بل راح يقرأ سرّا بقيّة الآية. لقد عاد من الخربة ليلة أمسِ منتشيا، وحدّث المعزّين طويلا، عن واجب العودة إلى الله، وتَرْك الأمور الدنيوية، والاتّعاظ بالموت، فالموت نهاية محتومة، مهما بلغ الإنسان من العمر.
نام الشيخ أحمد نومة طبيعيّة، ولم يفق بعدها، حفيدته التي جاءته بالحليب، وجدته نائما وطيف ابتسامة على وجهه. «ما شاء الله» قال الملا وتفكّر في دورة الموت التي تتقصّد «الشيّاب» الذين لا يحتملون الزكام والبرد وأمراض الشتاء. «في الربيع يموت العشّاق» وابتسم الشيخ، ولم يدرِ أين سمع هذه العبارة، في صوت لندن، أم من مثل كرديّ قديم، أم وجده في كتاب قرأه. حين وصل البيت، عرضت عليه زوجته أن تصنع فطورا، لكنّه فضّل أن يغفو بعض الوقت، وكان الوقت مبكّرا على بثّ الإذاعة السوريّة، التي تبدأ بالقرآن الكريم في الخامسة والنصف، وآنس من الفراش بقايا دفءٍ، وقاومته صُوَرٌ مختلفة تجمّعت عند وسادته، صور مجلس العزاء، وأحفاده في القامشلي، وطفولته البعيدة، هناك حين قرأ الملا الحروف العربيّة أوّل مرّة: «أَلِيف.. با.. تا.. ثا…» وصورة الشيخ يشجّعه على القراءة، واندغمت الصور، وحاول الملا تفكيكَها، لكنّ النوم منعه.
لم تكن الخربةُ حزينة إلى درجة كبيرة، فالشايب « چلا عمرو» وهو متعب منذ سنوات، لكنّ موته الهادئ فاجأ أهله، وفاجأ أهل الخربة والصفرة أيضا، لم يكن حزنا كبيرا، لكنّه كان عزاء جليلا، يليق بالشيخ أحمد وبالقبيلة، جاءت عشائر العرب والأكراد، ومسؤولو الدولة، وجاء رجال دين، كان عزاء «مهيوبا» استعرض فيه أبناء القبيلة نفوذهم الاجتماعي، وألفَ الشباب طقس العزاء المغلّف بالحزن، لكنّهم «تالي» الليل، وحين يغادر المعزّون يجتمعون حول النار في صاجٍ مقلوب، وربّما تعشّوا معا، وتحدّثوا في الدين والسياسة والمواسم. عشرة أيّام بلياليها، وفي اليوم الحادي عشر وصل ياسين، وتلقّاه الجميع.
عرف ياسين الشيخ أحمد في السنوات الأخيرة، حين يأتي مع الحاجّ عبد اللطيف، ويجلس مع الرجلين، اللذين يطيلان في تذكّر الأيام البعيدة، وقد يتناول الشاي من يد «راعية البيت» ويصبّ بنفسه للشيخين، وقد يقرأ لأحدهما نشرة الدواء في العلبة ليشرح طريقة تناوله، ويستقبل بنفسه ضيوف الشيخ، إن لم يكن أحد من أبنائه في البيت. كان ياسين ابن القريتين معا، منذ تصالح العجوزان اللذان فرّقت بينهما فرسٌ قديمة، ثمّ تجدّدت في سيارات الكاديلاك الفارهة. لكنّهما اعترفا بالواقع، منذ أن بدأت مدارس الدولة تفرز وجوهاً جديدة للقبيلة من أبنائهم الذين وصلوا إلى الجامعة، وصاروا موظّفين كبارا ينعمون بخير الوظيفة، وبجاه السلطة، وبعصاها أيضا. واعترفا بالوهن والتعب، ومالا إلى الدعة والسكينة، وأحبّهما ياسين، يتبادلان العتاب القديم، وصور القبيلة الآتية من الجنوب، ويتذكّران وقائع حروب قبلية لم تهملها قصائد الشعر، ولا أسماء الأماكن. لكنّهما يعودان سريعا إلى واقعٍ قاسٍ رهيب. خرجا منه إلى الحافّة. بكى ياسين عمّه الشيخ أحمد كما كان يقول له، بكى بحزنٍ رائق، وترحّم عليه، وسأل أصحابه إن قرؤوا له «الختمة».
ارتفعت الشمس قليلا، وملأ الدفء أنحاء البيت، أخذ الملا الراديو من جانب المخدّة وأداره، كانت نشرة أخبار السابعة والربع أنهت الموجز، فأعاد الشيخ إقفال الراديو، لا شيء يستحقّ متابعة النشرة، وإذاعتا لندن ومونتي كارلو ضعيفتا البث. أغلق الملا المذياع ثانية ونظر إلى السماء وتذكّر الصور التي ازدحمت في البال حين خرج من المسجد؛ خطبته في العزاء، وطفولته البعيدة، وأحفاده في المدينة. لم تكن قراءة قرآن وحسب يومذاك، بل آلة العربية، ومتون النحو والفقه، وهزّ الملا رأسه يقتنص صوتا من البعيد، صوت شيخه الفصيح يصارع عجمة الأولاد في ذلك الكتّاب:
ترفع كان المبتدا اسما والخبر* تنصبه ككان سيّدا عمر
لكنّ العصفور الذي نقّر فوق الشبّاك أعاده إلى شتاء الصفرة. كان الشبّاك الصغير، مؤطّرا بدرفتين من خشبٍ قديم، وقد امّحى الدهان الأخضر بفعل الشموس والأمطار، لكنّه ما زال يحمي الزجاج الشفّاف، منذ سنتين بدّل الملا بالزجاج المخرّم السميك هذا الزجاج، فليس من أحدٍ يدخل الحوش دون استئذان، ثم إنّ الأولاد تزوّجوا ولم يبق إلا هو والعجوز. يحب الملا أن يرى الدنيا من وراء نافذته، مملكته الصغيرة في هذا العمُر؛ شمس الضحى المواربة، والظهيرة التي تسقط في مربع صغير وسط الغرفة، والدالية.. الدالية التي صارت تطعم منذ خمس سنوات، والمساء المتدرّج منذ أن يعود من صلاة العصر، يتابع ألوان المساء بعينين تستعينان بنظّارة ذات إطارٍ سميك، وقبل أن تغطس الشمس ينهض ليؤذّن المغرب، ويضبط ساعته على توقيت الثانية عشرة في التوقيت العربيّ، كما تعلّم في مدرسة الشيخ.
قفز العصفور ورفرف قليلا ثمّ حطّ على الدالية، كان الربيع قد حطّ في قلب الملا أيضا، وتذكّر عصفورا في نشيدٍ قديم*:
نَوايَا مُطْرِبُ وچنگى* فِغانْ آڤِيتَهْ خَرْچنْكى
وأحسّ بعنادل وطيور تغرّد في تلك القرية البعيدة، هناك حيث سعيد، سعيد وحسب، وراء العصافير، يسمع النشيد يتجدّد:
نَوايَا مُطْرِبُ وچنگى* فِغانْ آڤِيتَهْ خَرْچنْكى
وهزّ رأسه هزّاتٍ خفيفات، واستنجد بالذاكرة يريد تكملة النشيد، وأعاد الكَرّة:
نَوايَا مُطْرِبُ وچنگى* فِغانْ آڤِيتَهْ خَرْچنْكى
واحتدم الإيقاع، ولاحت صورة الملا الجزيري، وبساتين جزيرة ابن عمرو، والثلوج تغطّي رؤوس الجبال، ومم وزين، وعاد العصفور ثانية إلى الشبّاك، ولم يوقظ الشيخ هذه المرّة بل أمدّه بباقي النشيد:
وَرَا سَاقى حَتَا كنْگى* نَشُويينْ دِلْ ژِڤى ژَنْكى
حَيَاتا دِلْ مَيَا باقي* بِنُوشِينْ دَا بِمُشْتَاقى
ألا يا أيُّها السّاقي* أدِرْ كأسا وناوِلْها
وتذلّلت له المعاني، نغمة بعد نغمة، وكلمة بعد كلمة، فإذا هو الآن في تلك الحضرة بين يدي الشيخ، يرى المجاذيب والدراويش، والشيخ يقف أمامهم واحدا واحدا، قارئا بيت شعر، أو قولا مأثورا. وأحسّ الشيخ بنشوة الانتصار وهو ينظر إلى العصفور الذي أوصله إلى الكنز، وخفّف من إيقاع النشيد، ورقّق صوته، وهو ينشد «حياتا دل، ميا باقي» وكرّرها، وهو يطلّ على الصور التي لم تغادره هذا الصباح. وكانت العجوز تخبز على التنّور، فلما فرغت، جاءت برغيفين ساخنين ملفوفين بقماشة، داعية الملا إلى الطعام:
– وا ملا .. وره نان بخوا..**
ولم يردّ الملا، وأعادت العجوز النداء، وهي تأتي بالشاي واللبن، لكن عبثا، فهزّت رأسها مستكينة:
– بخودي.. ملا هيمان***.
من خربة الشيخ أحمد، الفصل الخامس والعشرين
كاتب سوري