«يا أور.. أيتها المزار عساكِ ترتفعي إلى عنان السماء».. الإله «أنكي» في ترتيله من أجل المدينة.
حبست أنفاسي حين وصلت إلى إحدى بوابات العالم السبع إلى سحر سومر.. إلى مجد أور..
«إنانا» و«دموزي» يتغازلان عند بوابة الحضارة
إنانا: كنت أتلألأ وأمرح وحدي.. كنت أغني مع شروق نور الشفق.. التقى بي سيدي دموزي.. أمسك بيدي وعانقني.. حاولت إنانا أن تفلت من أسر دموزي
إنانا: عليّ أن أعود إلى البيت فخل سبيلي ما عساي أن أقول لأمي؟
دموزي: يا أدهى النساء سأعلمك ما تقولين
خطواتي تسابق ومض بريق سماء أور.. وقد تمثلت أمامي نواميس «أنكي» لقيام مدينة القمر، السيادة والإلوهية والملوكية والكهنة ونظام الحكم والتاج والصولجان والطقوس والشرائع والحب والأدب والفن والموسيقى.
لقاء الملك
أستمع إلى أنغام مزامير، وإيقاع طبول، وعزف الهارب، والكاهنة العليا تغني..
تهمس العرافة «إنانا»: سنشهد الليلة إقامة حفل الزواج المقدس لملك نبيل وحكيم وراع للآداب والفنون والموسيقى ورياضي (ماراثون) عداء المسافات الطويلة.
دموزي: في هذه المناسبة المقدسة سأمنح لقب (الراعي) إلى «شولكي» الشاب النبيل، وهو أبن الملك «أور نمو» زعيم سلالتها الثالثة.
إنانا: سأهب لقبي إلى أجمل الجميلات، التي ستكون عروس «شولكي» وزوجته أميرة الساحل السوري.
ملك سومر الذي أتم بناء (الزقورة)، وقد حكم بلاد الرافدين مدة (47) عاما ( 2048-2095 ق. م) بعقلية دبلوماسي وذوق فنان وإبداع معمار وفلسفة حكيم.
الحقيقة هي أن أرض سومر شهدت أصل أكثر من ميزة واحدة للحضارة الحالية، سواء أكان فيلسوفا أو مدرساً أو مؤرخاً، فمن المرجح أن يجد الإنسان الحديث نموذجه، ونظيره في سومر القديمة.
طقوس
يبحر «شولكي» بسفينته من العاصمة أور الى مدينة الوركاء، وينزل في الجناح الخاص بمعبد «إنانا» مرتدياً بدلة جديدة، وواضعاً التاج على رأسه، ويقوم أحد الكهنة بتقديمه إلى عروسه.. أما الكاهنة العليا فتستقبل زوجها، في أجمل الثياب، وتتزين بحليتها وأساورها، ويخصص لهما سرير من خشب الأرز مطعم باللازورد ومجهز بفراش وثير. منح «شولكي» لنفسه لقب «الملك الإله» حين جمع سلطات القصر والمعبد، وشيدت تماثيله في المدن السومرية، ونحرت عندها القرابين مرتين في الشهر، وأطلق اسمه على أحد أشهر السنة، وفي عيد رأس السنة السومرية، وهو الأول من نيسان يلقي الملك ترنيمة: «أيتها الآلهة سأقوم بإتمام الطقوس التي تنظم ملوكيتي لك، وسأكمل لك الأسلوب المقدس، ومهما كانت الضحايا المتعلقة بيوم الهلال الجديد، ويوم السنة الجديدة، سأقدمها لك».
الملك والموسيقى
ننصت «شولكي» وأنا الى إبداع فرقة السيمفونية الوطنية العراقية في «كرنفال» بغدادي، وتشاهد حالة أخاذة من السحر والجمال.. إنها عازفة البيانو التشيكية ـ العراقية ناتاشا الراضي، وتتمثل أمام مخيلة الملك عازفة المعبد السومري «نانشي» ويطرب الملك لعزف المايسترو علي خصاف السومري العراقي المهذب صاحب الابتسامة المشرقة وهو يعزف على آلة الكلارنيت… أطالع نظرية عالم السومريات الأمريكي الراحل صموئيل كريمر الذي قام بترجمة العديد من ألواح سومر إلى الإنكليزية، واعتقاده البديع الذي أجده يلامس الروح، ويتدفق نحو القلب، ويثير الاعجاب في كتابه الموسوم:
(The Sumerians : Their History, Culture, and Character)
« الحقيقة هي أن أرض سومر شهدت أصل أكثر من ميزة واحدة للحضارة الحالية، سواء أكان فيلسوفا أو مدرساً أو مؤرخاً أو شاعراً أو محامياً أو مصلحاً أو رجل دولة أو سياسياً أو مهندساً أو نحاتاً، فمن المرجح أن يجد الإنسان الحديث نموذجه، ونظيره في سومر القديمة».
يسحرني ذلك النص الواعي والعميق، ويتجذر في خاطري الاعتقاد بأن الإبداع الإنساني في الفنون والآداب والعلوم هو امتداد حقيقي للحضارة السومرية، وحالات الإلهام وتمرد الخيال في الزمن الحاضر، ما هي إلا تناسخ فكري حلت من جديد وتوالت ولاداتها من رحم الحضارة إلى أحضان الحداثة، وأتحسسها من خلال المقارنة والتناظر وتناسخ المواهب.. «شولكي» فنان بارع وموسيقار، ويجيد كتابة الشعر وغناءه. مبدع ومرهف الإحساس، ويعزف على ثماني الآت موسيقية، ويبدع بتسوية أوتارها بأنامله، ويُعرف السلّم الموسيقي السومري بالسباعي، من الوتر الأول وصولاً إلى السابع، وأما الوتر الثامن فهو عودة إلى الوتر الأول مع مضاعفته المسمى جواب القرار ويدعى (أوكتاف)، وقد بني السلّم على أرقام رياضية تعتمد الرقم (60) الذي يمنح لكل واحد من الآلهة رقماً يميزه، ويقسم الأوتار إلى أرقام، وهذا السلّم الموسيقي يناظر السلّم الحديث (دو ري مي فا صول لا سي). ومن على منصة مسرح القصر يقدم «شولكي» سيمفونية ويبدأ بالعزف على القيثارة، وبعدها على الهارب، وثالثة على الجار، ومن ثم على السيتار، وأنغام الملك تقول «الموسيقى هي لغة الآلهة»..
وفي هذه المناسبات يقوم السومريون بارتداء أفخر الثياب، فالعبارة السومرية تقول: «كل فرد يميل إلى الشخص الذي يلبس الحلة الفاخرة وينجذب إليه».
أفول مدينة القمر
شكل خريطة مملكته تمتد من الشمال حيث جبال طوروس في تركيا إلى الخليج جنوباً، ومن جبال زاكروس في الشرق إلى البحر المتوسط غرباً.. لم تسلم « سومر» من الدمار وكذلك نواميس «أنكي» تمزقت وتبعثرت، ولم تعد قادرة على حماية مدينة القمر، وكما لكل حضارة من إشراقة فمن المؤسف غروبها في يوم حزين وأفول مدينة القمر.. أور على موعد مع الدمار، وقد رثاها الأدب السومري:
«رثاؤك مرّ أليم ايتها المدينة..
مدينة أور التي خربت رثاؤك مرّ أليم
كم سيظل رثاؤك الأليم يحزن سيدك الباكي!»
٭ كاتب عراقي
السلام عليكم
تحية طيبة مباركة
لقد أبدعت فوفقت برائعتك هذه قد أخرجتنا من العادي إلى المميز ..كثير من يغفل عن حياة بشر عاشوا حقبة من الزمن وقد طواهم النسيان ولكن قد إستطعت أن تبعث فيهم حياة جديدة لنعيش لحظات من الماضي في مدينة(أور) قديمة قد إستوطنت من قبل بشر ألى وهي عاصمة الحضارة السومرية في عام 2000ق.م وهي مولد أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام في عام 2000 قبل الميلاد، وهي مكان نزول الرسالة الحنفيّة، واشتهرت قديماً باحتوائها على الأبنيّة المبنيّة من الطوب المحروق، والكثير من المعابد، والآثار المختلفة، وتصل المساحة الإجماليّة للمدينة إلى حوالي 240 فدان…
وفقك الله أخي دراجي
ولله في خلقه شؤون
وسبحان الله
كنت دائما احلم بألة الزمن والسفر من خلالها
اليوم ومن خلال كلماتك سافرت الى واحدة
من اعظم الحضارات التي عرفتها البشرية
وحزنت مع سكان المدينة وملكها يوم كان الخسوف والخراب يحتل المدينة التي حملت مشاعل النور والعلم للعالم..
شكرا أستاذ نجم على هذه الجولة التاريخية والروائية..
تاريخ لا يقدر بثمن مهما تغير الزمن وتبدلت القرون تبقى اور وسومر والقيثارة والمعابد والفنون والاله فجر التاريخ مليء بتلك الابداعات واصل الابداعات
الأستاذ نجم الدراجي ، حفيد الحضارة السومرية وربما حفيد الملك شولكي نفسه ،حقيقة ابدعت في هذه القطعة الفنية المنحوتة بتراب تأريخ لما قبل الميلاد ومصقولة بصيغة ادبية جميلة وكأنني في صالة عرض لمسرحية حضرت فيها أرواح كل من ديموزي وإنانا وشولكي . يذكر عالم الآثار ( Edward Chirea ) في كتابه ” كتبوا على الطين ” ، أن هذه المدن في أرض الرافدين لم تمت مثلما اندثرت وماتت باقي المدن في أماكن اخرى من العالم ، بل انها مجرد مهجورة ، و ان بامكانه أن يستمع الى همهمة الحياة فيها من خلال لمسات الإنسان الذي بنى المعابد والأعمدة والأقواس القائمة فيها .
أقدم وأعرق الحظارات قد ظهرت في وادي الرافدين لكن مع الأسف الجيل الحديث لا يعرف عنه شيأ” ولم يسمع عنه شيأ” والخطأ هي خطأ وتقصير الحكومات التي لا يعرف أبناءه كم كان العراق عظيما . لو كان هذه الحظارات في بلدان أوربية لكان أخرجوا مئات الأفلام للإفتخار بماضيهم وتثقيف الأجيال وتعريفهم بتأريخ بلدانهم . شكرا جزيلا أستاذ نجم (كاتب من أور) على هذه المقالة الرائعة .
تاريخ أمم الهلال الخصيب من اعرق التواريخ وأغناها وقبائل شمر اليوم هي من أحفاد السومريين ويتواجدون في سورية والعراق
ومن جهل أنظمة اليوم والعصابات والمليشيات الظلامية انها حاولت طمس هذا التاريخ وآثاره.
شكرا جدا أستاذ نجم بتذكيرك بتاريخنا التليد
صدحت الموسيقى في أرجاء المكان …وتمايلت الحروف على وقع أنفامها …اي سحر وعبق نقلته إلينا استاذ نجم…يا ليت نرى نماذج لنا في هذه الحضارة العريقة …غزل وحب وفلسفة وأدب وعزف وأسماء حملتها آلاف السنين وما اندثرت …في هذا العراق العريق…كان صباحي جميلا مع مقالك …سلمت يا صديقي عقلا وفكرا ويدا وعمرا…
تحية لالاستاذ نجم وللجميع
اسلوب فني رائع لسرد لحقائق تاريخية بمزجها من الحاضر باسماء مبدعين تبقى سومر وارضها وشعبها معطاء قد تنكسرر حيين ولكنها تعود في صور اخرى انها جينات السومريين التي امتزجت مع الاكديين وبعثت مررة اخرى في بغداد والبصرة والموصل وكل حواضر العراق ستجد حزنهم في الابوذية العراقية وفي تابين الحسين وستجد انفاس الحانهم قد اعادها الموصلي والقرة غولي والخفاف في موسيقاهم والسياب في شعره والامر يطول فهم موجودون فينا وحتى من ارادوا اختصار العراق بلون واحد ما استطاعوا لك فعادوا اليهم والى اسماءهم
أول مرة أعرف بأن السلم الموسيقي المعمول به الآن كان من حضارة سومر العراق!! شكراً للكاتب على المعلومات, ولا حول ولا قوة الا بالله
حبذا لو يتحفنا الكاتب المتألق مع الشكر عن من كان له السبق بالكتابة؟ هل هي حضارة العراق أم الشام أم مصر؟ فالكل يغني على ليلاه!! ولا حول ولا قوة الا بالله