الملك والعشيقة والديمقراطية!!

حجم الخط
0

لا يزال العاهل الإسباني السابق خوان كارلوس الأول دي بوربون يشغل بال الناس حتى وهو في أرذل العمر (86 سنة) وخارج دوائر السلطة اضطرارا وليس اختيارا.
إذ وجد العاهل الإسباني نفسه في قلب فضيحة مدوية تلوكها الألسن هذه الأيام في إسبانيا وتلاحق الصحافة الصفراء تفاصيلها المثيرة بعد كشف صحيفة هولندية تعنى بأخبار المشاهير تفاصيل علاقة غرامية في تسعينيات القرن الماضي لخوان كارلوس مع حسناء إسبانية وثقتها بنشر صور وتسجيلات حصرية.
الصحف الإسبانية الشغوفة بمتابعة أخبار العائلة المالكة سارعت إلى النبش في تاريخ «الغزوات الغرامية» لخوان كارلوس الأول مذ شبابه وصولا إلى السنوات الأخيرة من تربعه على عرش إسبانيا. ونسبت صحف للملك الشبق أربعة أبناء وبنات من صلبه أنكر أبوتهم، وزادت على ذلك بالقول إن عرابه الديكتاتور فرانثيسكو فرانكو كان يرغمه في بعض الأحيان على قطع علاقاته النسائية بعد أن خرجت تفاصيل بعضها إلى العلن وباتت مغامراته الجنسية الماجنة حديث العام والخاص، فيما زعم عقيد سابق بالجيش الإسباني في كتاب صدر مؤخرا أن إجمالي عدد خليلاته ممن ثبت ارتباطه بهن عبر علاقات عابرة بين عام 1955 و2014 يزيد عن خمسة آلاف سيدة، بينهن صحافيات ونجمات سينما وملكات جمال ونبيلات من الطبقة المخملية!!! وتناقلت بعض الألسن أن من أصبح ملكا على عرش إسبانيا كان يتردد باستمرار على ماخور السيدة كلود الشهير في باريس.
لم يكن خوان كارلوس ملكا لعوبا وزير نساء فحسب، بل محبا للبذخ ومسرفا فيه. ولم يكن يرى حرجا في قبول هدايا ورشى وتقاضي عمولات بملايين الدولارات في صفقات تجارية لعب دور الوساطة فيها وكانت موضوع تحقيقات جنائية بشبهة الفساد. وفي عام 2012 أصيب بكسر في الحوض بينما كان يصطاد الفيلة في أدغال بوتسوانا، وتزامن الحدث مع مطالبته الشعب الإسباني بالجلد والصبر لمواجهة أسوأ أزمة اقتصادية تشهدها البلاد خلال العقود الأخيرة، في وقت كانت المؤسسات الاقتصادية الدولية على وشك التدخل لتنقذ بلاده من الإفلاس التام.
لقد كان حب خوان كارلوس للترف وشهوانيته النزقة سببا رئيسياً في تنحيه عن العرش لابنه فيليبي عام 2014 بعد ضغوط من شخصيات سياسية بارزة نصحته بالتواري عن المشهد حفاظا على المؤسسة الملكية وصونا لصورتها لدى الإسبان بعد أن لطخ سمعتها وعرضها للمساءلة من قبل الرأي العام مما اضطرّه في مرحلة لاحقة للاعتذار وطلب الصفح والانتقال إلى العيش في منفى اختياري عام 2020.

التاريخ سيحفظ للملك السابق دفاعه عن استمرارية النظام الدستوري ومقاومته لتيارات محافظة داخل هياكل السلطة وتحديدا في المؤسستين العسكرية والأمنية كان يراودها الحنين لفترة الديكتاتورية في فترة استقطاب سياسي حاد مطلع ثمانينيات القرن

الكشف عن هذه الفضائح أعاد إلى الواجهة أيضا تساؤلات مشروعة عن طبيعة النظام السياسي في إسبانيا والدروس المستفادة من تجربة الانتقال الديمقراطي التي لطالما نظر إليها عربيا، بعد ثورات الربيع العربي، على أنها واحدة من أنجح التجارب في بلد كان إلى حدود منتصف سبعينيات القرن الماضي غارقا في براثن الاستبداد والشطط في استخدام السلطة.
بانجرافه وراء نزواته وشغفه باللهو، أساء خوان كارلوس لرصيده الرمزي كملك ساهم في إنجاح مسلسل الانتقال الديمقراطي ونقل السلطة من ديكتاتورية عسكرية قمعية إلى ملكية برلمانية رسم دستور 1978 حدودها، وجعل من الملك التجسيد الحي للدولة الإسبانية ورمزًا لوحدة البلاد، ولم يمنحه سوى سلطات شكلية تقتصر على دور الحَكَم للبت في النزاعات بين البرلمان والحكومة وهندسة التوافقات بين الأحزاب والقوى السياسية بينما نقل السلطة الحقيقية إلى البرلمان والحكومة.
على أن التاريخ سيحفظ للملك السابق دفاعه عن استمرارية النظام الدستوري ومقاومته لتيارات محافظة داخل هياكل السلطة وتحديدا في المؤسستين العسكرية والأمنية كان يراودها الحنين لفترة الديكتاتورية في فترة استقطاب سياسي حاد مطلع ثمانينيات القرن المنصرم انتهى بمحاولة انقلاب فاشلة قادها عسكري يدين بالولاء للجنرال فرانكو.
ولأن المؤسسة الملكية ليست جهازا فوق الدستور، فإن هذه الفضائح أججت النقاش حول الملكية في بلد تنامت فيه نسبة التأييد للعودة إلى النظام الجمهوري والمطالبة بإجراء استفتاء شعبي حول مستقبل الملكية.
بيد أن اللَطخ الذي لوث سمعة المؤسسة الملكية على خلفية فضائح الملك السابق لم يمتد إلى باقي مؤسسات الدولة، ولم يعطل أداءها، وتلك مزية من مزايا الديمقراطيات الدستورية التي تجعل الملك يسود ولا يحكم.
إن تأمل مسارات الانتقال الديمقراطي في إسبانيا وتعرجاته المختلفة يسعف في استخلاص حزمة من الملاحظات الأساسية تجعل التجربة الإسبانية، رغم ما اعتراها من انجرافات وعلل، نموذجا للاستلهام في العالم العربي.
إذ إن صيغة القطيعة التوافقية مع نظام الجنرال فرانكو اعتمدت مبدأ التدرج والتوافق السلمي وعدم إقصاء الخصوم السياسيين أو إقامة «محاكم تفتيش» لملاحقتهم، وهو نهج سمح بضمان الاستقرار والحفاظ على السلم الأهلي وبناء نموذج ديمقراطي قائم على أسس مؤسساتية راسخة وقيم ثابتة وفي مقدمتها حرية الرأي والتعبير، جنبت البلاد الكثير من المطبات والعثرات.
بينما أفرز الدستور، بموجب أول انتخابات تشريعية عام 1977، برلمانا يتعايش تحت قبته أتباع الملكية وأنصار الجمهورية على حد سواء، ونبذ أي شكل من أشكال احتكار السلطات، وحقق مبدأ الفصل بينها، ومنح الأقاليم الكبرى صيغا متقدمة من الاستقلالية عن السلطة المركزية أخمدت لهيب النزعات الانفصالية لدى القوميين خصوصا في إقليمي الباسك وكاتالونيا.
ملاحظة أخيرة، ما كان لهذه الفضائح أن تجد سبيلها خارج الأبواب المغلقة في بيئة تقدس الحكام، وما كانت لأي وسيلة إعلام لتجرؤ على نشر تفاصيلها حيث تسود ثقافة تكميم الأفواه ليس لأن الحكام أتقياء أعفة يبتعدون عن الشهوات والأهواء، بل لأنه ما كان أي حاكم ليسمح، قيد حياته على الأقل، بأن تكون فحولته ومغامراته النسائية حديث العامة ومادة لتزجية الوقت في الجلسات الخاصة.

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية