ما دامت طهران قلب «الممانعة» النابض وركنٌ أساسي في مواجهة الولايات المتحدة وربيبتها الصهيونية، فلا يمكن أن تقوم انتفاضة جماهيرية ضد الطغيان الإيراني أو ضد نظام تسوده قوى مرتهنة بذاك الطغيان، أو ضد الأمرين معاً، سوى بنتيجة «مؤامرة» تحوكها واشنطن وإسرائيل ومن لفّ لفّهما. هذا ما يذهب إليه النظام الإيراني وأنصاره والمرتهنون به في منطقتنا العربية، وهو ادّعاء يتغافل عن جملة حقائق.
الحقيقة الأولى هي أن «الممانعة»، حتى لو كانت حقيقية لا غبار عليها ولا شكوك في فحواها، لا تكفي لإضفاء الشرعية على حكم فاسد وظالم. فقد صفّق النظام الإيراني لانهيار الاتحاد السوفييتي، وكيف به لا يصفّق له وقد ساهم هو نفسه في تسريعه من خلال دعمه للمقاومة الإسلامية الأفغانية للاحتلال السوفييتي لأفغانستان. هذا ولا يستطيع أي عاقل أن ينفي أن الاتحاد السوفييتي كان القوة الأساسية في مواجهة الولايات المتحدة على الصعيد العالمي. ومع ذلك فقد رأت طهران أن انتفاضة شعوب الاتحاد السوفييتي على النظام السائد في بلدانها انتفاضة مشروعة تماماً، وكيف لا وقد سبق لمؤسس «الجمهورية الإسلامية»، روح الله الخميني، أن أفتى في تعارض الشيوعية مع الإسلام، مما دفع موسكو إلى دعم صدّام حسين في حربه على إيران بحيث رأت طهران نفسها محاصرة من طرف الاتحاد السوفييتي وخاضعة لهجوم عسكري منه عبر أفغانستان والعراق.
ويقودنا هذا التذكير إلى حقيقة تاريخية ثانية، هي أن طهران لم «تمانع» قط في التعاون مع الولايات المتحدة وحتى مع ربيبتها الصهيونية عندما قضت مصلحتها بذلك. فكل من يعرف تاريخ الحرب بين العراق وإيران يدرك أمر الصفقات التي من خلالها، وبتوسّط من المخابرات الإسرائيلية، زوّدت الولايات المتحدة إيران في عامي 1985 و1986 بمجموعة واسعة من الأسلحة شملت صواريخ مضادة للدروع وأخرى مضادة للطائرات (ما سمي «قضية إيران ـ كونترا»). ولم تكتف طهران بالترحيب بالحربين اللتين شنّتهما واشنطن على العراق في عامي 1991 و2003، بل شارك أعوانها العراقيون بصورة مباشرة بتسيير شؤون الاحتلال الأمريكي للعراق إثر عودتهم إلى البلاد في ركاب مصفّحات الاحتلال وبدعوة منه.
السياسة الإيرانية لا تسيّرها مبادئ «الممانعة» بالرغم مما تدّعي طهران ويدّعي أنصارها، بل تسيّرها مصلحة استمرار النظام الإيراني وتدعيمه
وتحيلنا هذه الحقيقة بدورها إلى حقيقة ثالثة هي أن السياسة الإيرانية لا تسيّرها مبادئ «الممانعة» بالرغم مما تدّعي طهران ويدّعي أنصارها، بل تسيّرها مصلحة استمرار النظام الإيراني وتدعيمه، وهما الاعتباران الساميان اللذان تخضع لهما كافة الاعتبارات الأخرى في سلوك إيران الإقليمي والدولي. فالطائفية ذاتها لا تعدو كونها وسيلة تستخدمها طهران في توسيع رقعة نفوذها الإقليمي، وليست غاية بحدّ ذاتها. وقد استخدمت إيران النزعة الطائفية الشيعية لتحقيق سطوتها على العراق ولبنان، كما تستخدمها في بناء أداة سطوتها المباشرة في سوريا من خلال قواتٍ بعضها دخيل على البلاد، بينما استخدمت في وقت سابق الورقة الإسلامية الشاملة لتقيم علاقات تعاون مع فرعي جماعة الإخوان المسلمين في مصر وفلسطين (حماس) ضد نظام مبارك حليف واشنطن وضد الدولة الصهيونية التي غدت تعتبر إيران ألدّ أعدائها بعد تدمير العراق. لكنّ إيران لم تقم بالمثل مع الإخوان المسلمين السوريين، بالرغم من أنّهم مقرّبون إليها أيديولوجياً بقدر ما هم إخوان مصر وفلسطين من خلال التزمّت الإسلامي المشترك بين كافة الأطراف المذكورة، بل دعم حكّام إيران وحلفاؤهم ضد إخوان سوريا نظاماً يدّعي الاستناد إلى أيديولوجيا قومية عربية علمانية تتناقض بصورة صارخة مع الأيديولوجيا الخمينية القومية الإيرانية والإسلامية الأصولية.
أما الحقيقة الرابعة، فهي أن سيادة طهران السياسية والعسكرية إنما تنسجم انسجاماً تاماً مع سيادة الفساد وتعميق اللامساواة الاجتماعية من خلال السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي تتّبعها طهران في عقر دارها وينتهجها أعوانها الإقليميون أو يشاركون في انتهاجها وتطبيقها حيث يسودون. فمثلما هبّ شعب إيران ذاته في أواخر عام 2017 وطوال عام 2018 ضد حكّام «الجمهورية الإسلامية» والفساد الذي رعوه وتدهور الأوضاع المعيشية الذي تسبّبوا به، يهبّ اليوم شعب العراق ضد المسبّبات ذاتها، ينضاف إليها التمرّد على الطغيان الإيراني الذي يبقى طغياناً أجنبياً حتى ولو انتمى المشرفون عليه إلى الطائفة ذاتها التي ينتمي إليها المتمرّدون. ومثل هؤلاء يهبّ اليوم شعب لبنان بكل طوائفه غير آبه بالنعرات الطائفية التي طالما استخدمها المشرفون على استغلاله لتفريقه، وهو يرفض شتى أصناف التحكّم الأجنبي بمصير وطنه، سواء أكانت إيرانية أم سورية أم سعودية أم أمريكية أم إسرائيلية أم غيرها، وهو الرفض الذي يعبّر عنه المتظاهرون والمتظاهرات بشعار «كلنّ يعني كلّن» وبرفعهم العلم اللبناني دون سواه.
كاتب وأكاديمي من لبنان
(هذا ولا يستطيع أي عاقل أن ينفي أن الاتحاد السوفييتي كان القوة الأساسية في مواجهة الولايات المتحدة على الصعيد العالمي)…
ما زال الكاتب يؤمن بكامل وعيه بتقليديات المواجهة “العالمية” بين أمريكا وروسيا (الاتحاد السوفييتي سابقا)… حقيقة، لم يكن هناك أي مواجهة تذكر منذ البدء… الطرفان حليفان حميمان في الخفاء حتى قبل تشكيل حلف وارسو، والعلائم الحاضرة لهذه الحميمية محسوسة على أكثر من مستوى… حتى أنها بدأت منذ اعتراف الاتحاد السوفييتي بإسرائيل ثم تبعتها أمريكا بهذا الاعتراف كتحصيل حاصل (رغم أنه كان على الأخيرة أن تكون قبل الأولى في هذه الخطوة)… !!!
جاء منذ دقائق مايلي:
الشعبوي العنصري ترامب يشدد على “صداقته” القديمة مع القومي الفاشي أردوغان… وهذا يوحي بالاتفاق الخفي بين الاثنين على ما سوف تترتب عليه عملية “نبع السلام” وعملية “نبع الجحيم”، حتى قبل أن يتم التنفيذ بزمن ليس بالقصير… !!!
وبعد تذكير ترامب بأن وقف إطلاق النار في شمال سوريا “صامد” بين تركيا والقوات التي يقودها الأكراد، يؤكد أيضا على أنه سيتم مناقشة النظام الصاروخي الروسي إس- 400 الذي اشترته تركيا وبرنامج المقاتلات الأمريكية إف- 35، الذي تم تعليقه… وهذا يوحي أيضا بدليل من دلائل التحالف الخفي الحميم بين أمريكا وروسيا، كما ذكرتُ في تعقيبي السابق… !!!