أطلقت الولايات المتحدة، الطلقة الأولى فيما يمكن أن يصبح صداما تاريخيا بين حضارات العالم كله في الشرق الأوسط برا وبحرا وجوا. مشروع «الممر الاقتصادي بين آسيا والشرق الأوسط وأوروبا»، الذي تم إطلاقه في قمة مجموعة العشرين، وهي المجموعة الاقتصادية التي يمكن وصفها بأنها مجلس الإدارة الموسع للعالم كله، سوف يضع منطقة الشرق الأوسط في عين العاصفة العالمية، التي قد تحدث في حال نشوب حرب بين الولايات المتحدة والصين، أو على العكس من ذلك يمكن أن يجعل هذه المنطقة ساحة فسيحة للتعاون بين الحضارات، من أجل بناء سلام مستدام لخير الشعوب، وخير الطبيعة.
الممر الاقتصادي في حال تحقيقه سيجعل تبادل المنافع بين الدول أقرب مما كان، إذا نجحت دول المنطقة في أن تنأي بنفسها عن الصراعات الجيوسياسية بين القوى العالمية المتصارعة على النفوذ والهيمنة، وكذلك في أن تنأى بسياساتها الإقليمية عن نزعات التدخل ومحاولة فرض السيطرة بدوافع أيديولوجية، أو دينية، أو مذهبية، أو عنصرية. أما إذا تحكمت محركات نزعات السيطرة والهيمنة من أي نوع، فإن المنطقة قد تصبح طاحونة حروب مريرة لسنوات طويلة، تدفع فيها المنطقة من ماضيها وحاضرها الغالي والنفيس. هذا المدخل مهم جدا لتفسير وفهم المشروع الذي وصفه رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بأنه سيغير وجه الشرق الأوسط للأبد، والذي يعتبره الرئيس الأمريكي بايدن، حلقة مهمة من حلقات التحالفات الإقليمية الجديدة في العالم التي تستهدف حماية الهيمنة الأمريكية وضمان استمرارها، في حين تعتبر دول أخرى، منها السعودية أن مبادرة الممر الاقتصادي توفر آليات مهمة لتحقيق النهوض والتقدم.
مشروع «الممر الاقتصادي» سيضع منطقة الشرق الأوسط في عين العاصفة العالمية، في حال نشوب حرب بين أمريكا والصين، أو على العكس يجعل المنطقة ساحة فسيحة للتعاون بين الحضارات
منابع مشروع الممر البحري والبري
ليس المشروع جديدا من حيث الرؤية والخطوط العامة، ذلك إنه يعود إلى صيغ ورؤى ارتبطت بقيام إسرائيل، عادت إليها الحياة في مشاريع أحدث منها، مشروع شيمعون بيريز للشرق الأوسط الجديد، ثم جاءت منها نسخة أحدث في رؤية تبناها إسرائيل كاتس وزير البنية التحتية والطاقة الحالي، لكن الصيغة الأخيرة التي ظهر بها المشروع، الذي قد يتخذ شكله النهائي على الورق، من حيث التمويل والتنسيق والأعمال الإنشائية قبل نهاية العام الحالي، هذه الصيغة النهائية التي ظهر عليها المشروع تستمد قوتها من أربعة منابع رئيسية:
المنبع الأول، هو «اتفاقيات إبراهيم للسلام» التي تقوم على مبدأ نتنياهو «السلام مقابل السلام» وترفض المبدأ الذي قامت عليه اتفاقيات التطبيع السابقة «الأرض مقابل السلام». الهدف الرئيسي لاتفاقيات إبراهيم هو دمج إسرائيل في المنطقة اقتصاديا وعسكريا، وتخطي القضية الفلسطينية، واعتبارها شأنا «عربيا – إسرائيليا» يمكن التعاون لتسويته لمصلحة الطرفين، وألا يكون عائقا في وجه تطوير عملية التطبيع ودمج إسرائيل إقليميا.
المنبع الثاني، هو التجمع الاقتصادي – الاستراتيجي الرباعي للشرق الأوسط، الذي يضم الولايات المتحدة والهند والإمارات وإسرائيل (I2U2) الذي تأسس في عام 2021، أي في العام التالي لتوقيع اتفاقيات إبراهيم. هذا التجمع هو جزء من استراتيجية أمريكية غير معلنة، لبناء مجموعة من التحالفات الإقليمية الجديدة حول العالم، تتكامل وظيفيا مع القيادات العسكرية الأمريكية في أقاليم العالم المختلفة، منها القيادة العسكرية المركزية في الشرق الأوسط الكبير. وتهدف هذه التجمعات إلى ضمان استمرار الهيمنة الأمريكية على العالم، وبناء حوائط صد قوية أو مناطق عازلة حول الصين، لمنع توسعها خارجيا. ومن الملاحظ أن الهند والولايات المتحدة تشتركان معا في تجمع رباعي آخر يضم أستراليا واليابان هو تجمع «كواد للمحيط الهادئ». القمة الأولى لتجمع كواد الشرق الأوسط عقدت في 14 يوليو عام 2022 في القدس، وصدر عنها ما يعرف بـ»إعلان القدس» الذي يحدد الأهداف الرئيسية للتجمع.
المنبع الثالث، هو مبادرة «الشراكة من أجل البنية التحتية والاستثمار العالميين» (PGII)، باستثمارات كلية تصل إلى 600 مليار دولار، وهي المبادرة الأمريكية التي تبنتها قمة الدول السبع الصناعية الرئيسية عام 2021 وتمثل الرد الغربي على مبادرة «الطوق والطريق»، التي أطلقتها الصين عام 2013 في شأن تنمية البنية الأساسية التي تربطها بالعالم. وقد جاء في البيان الصادر عن البيت الأبيض بعد إعلان مشروع الممر الاقتصادي، أن الهدف منه هو إطلاق عصر جديد من الاتصال من خلال السكك الحديدية وعبر الموانئ التي تربط أوروبا والشرق الأوسط وآسيا. وتعتزم الولايات المتحدة وشركاؤها ربط القارتين بمحطات تجارية، وتسهيل تطوير الطاقة النظيفة وتصديرها، ومد كابلات تحت البحر وربط شبكات الطاقة وخطوط الاتصالات لتوسيع نطاق الوصول الموثوق إلى الكهرباء، وتمكين ابتكار تكنولوجيا الطاقة النظيفة المتقدمة، وربط المجتمعات بالإنترنت الآمن والمستقر. ودفع التجارة والتصنيع الحاليين قدما وتعزيز الأمن الغذائي وسلاسل التوريد عبر الممر. كما تستهدف واشنطن إطلاق استثمارات جديدة من الشركاء، بما في ذلك القطاع الخاص.
ويجب أن نؤكد هنا أن الإدارة الأمريكية تلقت اقتراح الممر من إسرائيل، وقامت بدراسته، ومن ثم قررت دمجه في مبادرة البنية التحتية والاستثمار، وطرحه الرئيس الأمريكي بايدن على ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، خلال زيارته للسعودية في يوليو من العام الماضي. وتعتبر مشاركة الاتحاد الأوروبي في التوقيع على مذكرة التفاهم الخاصة بالمشروع عظيمة الأهمية، نظرا لأن الاتحاد خصص ما يصل إلى 300 مليار يورو للإنفاق على استثمارات البنية التحتية في الخارج بين عامي 2021 و2027، من خلال مشروع «البوابة العالمية»، الذي تم إطلاقه لمنافسة مبادرة «الطوق والطريق» الصينية.
المنبع الرابع، هو تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، الذي يمثل من وجهة النظر الإسرائيلية الشرط الرئيسي لتحقيق اندماجها الكامل في الشرق الأوسط، على أساس معادلة الزواج الشرعي بين التكنولوجيا الإسرائيلية، ورؤوس الأموال الخليجية، والانطلاق من قاعدة هذا الزواج إلى آفاق عالمية رحبة في مجالات التكنولوجيا الرقمية، والطاقة الجديدة والمتجددة، والحلول التكنولوجية لقضايا الأمن الغذائي والزراعة والمياه وغيرها. وقد لاحظنا في الأشهر الأخيرة أن عجلة الدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط دارت بأقصى سرعتها، في تنسيق قريب جدا مع إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية والقيادة السعودية، من أجل وضع أسس جيدة لتطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية. وقد حققت «الدبلوماسية المكوكية» خلال الأشهر الثمانية الأخيرة تقدما كبيرا على طريق بناء تفاهم شامل بشأن القضايا الثلاث الرئيسية المتصلة به، الاتفاق الأمني والعسكري، والتعاون النووي السلمي، والمسألة الفلسطينية. ولم يكن من الملائم أبدا، ولا من الممكن إعلان اتفاق الممر الاقتصادي قبل التوصل إلى خطوط عامة للتفاهم في القضايا الثلاث.
كوابح ضد الانفلات الجيوستراتيجي
إذا تم الالتزام بإدارة مشروع الممر الاقتصادي على أساس قواعد عدم التمييز، وتبادل المنافع والمصالح المشتركة، والبعد عن الصراعات الجيوسياسية، فإن المشروع سيصبح مكسبا للعالم كله، نظرا لموقع منطقة الشرق الأوسط في سلسلة إمدادات الطاقة العالمية، وسلاسل التمويل، وسلاسل التسهيلات والإمدادات اللوجستية وغيرها. أما الفشل في الالتزام بهذه القواعد والمعايير، فإنه يفتح بوابات جهنم كلها على الشرق الأوسط. ومع ذلك فإننا نعتقد أن العالم المقبل هو عالم التعددية ودبلوماسية العلاقات الشبكية وليس الخطية، وهي العلاقات التي تتيح للسعودية على سبيل المثال أن تقيم علاقات متوازنة مع روسيا والولايات المتحدة، وأن تقيم الهند علاقات متوازنة مع إسرائيل وإيران، وأن تقيم الإمارات علاقات متوازنة مع الهند والصين. ومن أهم المظاهر التي تؤكد وجود كوابح تمنع أو تحد من حدوث «الانفلات الجيوستراتيجي» أن الهند تربطها مصالح قوية مع إيران وروسيا لا يمكن التضحية بها لمصلحة أطراف أخرى. هذه المصالح تمثل كابحا ضد انفلات السياسة الخارجية الهندية أو العلاقات الاقتصادية ضد إيران لمصلحة إسرائيل، على سبيل المثال، أو ضد روسيا لصالح أمريكا. وقد نجحت الهند بالفعل على مدار عقود طويلة في تطوير علاقاتها مع كل من البلدين، على الرغم من أن كلا منهما تعتبر الأخرى عدوها الاستراتيجي الأول. ومن ثم فإننا نعتقد أن تعدد المسارات الحضارية والقارية عبر الشرق الأوسط يمثل ظاهرة صحية في عصر يتميز بالتعددية والتعايش السلمي، ويسهم في رفع مستوى رفاهية العالم؛ فليس هناك ما يمنع أن يتعايش الممر الاقتصادي بين آسيا وأوروبا مع طريق الحرير الجديد، أو ما يمنع التعايش بين محور الشمال الجنوب من بحر البلطيق إلى بحر العرب مع طريق البحر الأبيض – البحر الأحمر عبر قناة السويس، أو التعايش بين أي مشروعات أخرى تضيف إلى تعددية الاتصال والنقل وسلاسل الإمدادات بين الشرق والغرب، أو الشمال والجنوب. ومع ذلك فإننا لا يمكن أن نتجاهل حسابات الربح والخسارة، وهي الحسابات التي تؤكد أن إسرائيل هي أكبر الرابحين من مشروع الممر الاقتصادي الجديد، وأن مصر هي أكبر الخاسرين.
كاتب مصري