لا شك أنَّ في التَّعدد القرائي تكمن الكلية التي تضمن للناقد امتلاك منظورات متعددة تتسم بالتماسك والتآلف والوحدة التي ليست معها أنوية أو تراجع أو انفراد أو تطرف. بهذا سيندمج في الناقد تاريخ من الاختلافات، وأنظمة من الصراعات، وشهادات من الوقائع، وصلات من القيم والموضوعات، واندماجات من الشخصيات والهويات والاطروحات والمرتكزات… إلى غير ذلك من السمات التي هي جزء يسير من توصيف معقد ومتشابك وغير نهائي ينبغي أن يتحلى به وبشكل دائمي لا وقتي أي ممارسٍ للعملية النقدية.
وبهذا يغدو النقد الأدبي أرضا معطاء ومظهرا لإنتاج فكري يستحق القراءة والصبر عليها. لأنه نقد يستحضر الإنسانية في بدائيتها جنبًا إلى جنب الحضارة في مدنيتها، ويرتقي بالفكر من التبسيط إلى التعميق، ومن التشتت إلى التركيز، ومن المعاداة إلى التسامي، ومن الركود إلى التحريك، ومن التلقائية إلى القصدية. وهذه الأخيرة هي التي نشدّد عليها أولا وآخرا، فلولاها ما كان لنا أن ندرك حجم الممارسة النقدية وجسامة فعلها، وهول عملها، وشجاعة المتحلي بها، وكيف أنها نفسها تزدري كل من يتطفل عليها طارئًا، أو يُحسب عليها عارضًا، ساخرةً منه ونافرةً عنه، حتى لا تنفعه معها هيبته السياسية أو مكانته الاجتماعية ولا حظوظه القدرية. لإن المحك هو قصدية الممارسة وجديتها بمعزل عن مسمياتها الجذابة ورغباتها المتدارية ومهما كانت أغلفتها براقة، وتنطعاتها لماعة، ومساعيها مموهة وغلاّبة.
وما ندين به لنقادنا الأصلاء هو قصديتهم التي ضمنت لهم الأصالة والأمانة والنقاء، فكانوا مثالًا وسيظلون كذلك، مدللين بشكل غير مباشر على ما يضادهم من الطارئين على النقد، الذين وإن صعب الإمساك بهم لكنهم مشخصون، بفضل ما يمدنا به أولئك الأصلاء ــ الذين يحضرون في وعينا كأمثلة نقدية كبيرة ــ من نماذج ستيسر علينا مهمة رصد الطارئين والتدليل عليهم فعلا وقولا.
وإحدى سمات التمنهج ما بعد الحداثي، الممارسة النقدية باحتراف وعلمية، التي تجعل الناقد يختط للنقد الأدبي مناحي جديدة تشذبه من زيادات لصيقة به هي ليست منه، جاعلة صورة الناقد ثقافية مضغوطة تتكثف فيها صور الكينونات الآتية: الكاتب + الباحث + المؤرخ + المحلل + المعلق + القارئ + المفكر.
وهذا ما يتجسد في الرؤية المنهجية المتسمة بالحفر والتقليب والمتجهة بالتنظير صوب التطبيق، والمناهضة للنخبوية، والمتصدية للتصنيم، والمحاربة للتعقيد، والمعادية للدغمطة، والمناصرة للبرلة، والمعاضدة للاقطبية، وغير منحازة للفئوية أو متعصرنة لمرحلة معينة.
وبسبب هذه الرؤية ستبدو العملية النقدية فائزة بالتفرد مع أنها مائزة بالتعدد واللاتحدد، لا ينازعها منازع ولا يختلف بإزائها مختلف ولا ينافسها منافس. وهذا هو شرف الاخلاص للنقد والوفاء لممكناته ومتطلباته. وواحدة من الاشتغالات النقدية التي نطرحها في هذا الباب هو ممارسة منهجية (المرئي في التاريخ) الذي يتوقف العمل به على طبيعة الرؤية التي منها ينطلق الناقد في النظر إلى نصوص التاريخ ومتونه على اختلاف موجهات كتابتها وأساليب توثيقها وحفظها. فإذا افترضنا أنَّ الناقد ذو منظور تقليدي؛ فلن يجد في نصوص التاريخ غير متون سُطِّرت من جمل في شكل ألفاظ وفقرات لا يطال تركيبها شك لأنها موثوقة، ولا تفند ترابطها ريب أو ظنون لأنها فوق ذلك كله. إما إذا افترضنا أن منظوره للتاريخ غير تقليدي، برؤى وتصورات منهجية غير اعتيادية؛ فإن من المؤكد أنه سيتمكن من دراسة التاريخ مرئيا، فلا يغيب عنه مستور يقبع خلف السطور، ولا يختفي عنه مسكوت تدارى خلف الستور.
والسبب امتلاك الناقد رؤية ادراكية تجعله لا يرى النص التاريخي المدون عبارة عن ملفوظات نصية لها ترابط وتراص، متوفرة على متانة كتابية؛ بل هذا النص في منظوره مفكك وما عليه سوى أن يعيد دمج أواصره، بعد أن يدحض تعليلاته ويهرئ مسلماته ويخلخل ثوابته، مبتغيًا توصلات منطقية.
بهذا الوصف يكون المرئي في التاريخ هو حصيلة منهجية متحركة منشؤها مباصرة رؤيوية علمية، ومطلبها التفنيد الإخباري والحفر المعرفي لكل ما هو ثابت تاريخيا، وأساسها إعادة إنتاج المنتج من خلال فحصه بعين ثاقبة تدقيقية. أمّا هدفها فهو بلوغ الحقائق بمختلف الوسائل والإمكانات. وتتأتى هذه المنهجية من إيمان بقدرة الفلسفة على عقلنة التاريخ تمحيصًا في معطياته الإخبارية جنبًا إلى جنب تحري المعطيات اللغوية والمعجمية والدلالية فيه. وهذه المنهجية لا تستقر في دراسة التاريخ الرسمي عند مواضعات بعينها؛ إلا لكي تغادرها إلى غيرها، لأنها لا تعرف التقولب على ثابت، كما لا تفوض الأمر إلى أي سابق.
وعلى الرغم من أن تبني هذه المنهجية والمجازفة في توظيفها على نصوص التاريخ العربي والإسلامي ليس بالأمر اليسير؛ إلا إننا وجدنا باحثين عربًا امتلكوا ناصية العلم، متمتعين بوازع بحثي غير متحجر وروح منفتحة، أتاحت لهم التأثر بالفلسفات التاريخية العالمية، بدءًا من طروحات مونتسكيو وديكارت وهيغل وماركس ونيتشه، مرورًا بهيبوليت تين وسانت بيف ولانسون وجاك لوغوف وهيدغر وهوسرل وشلايرماخر وهابرماس، وصولًا إلى فلسفات ما بعد الحداثة وجاك دريدا وميشيل فوكو وبول ريكور وهايدن وايت وغيرهم، وما لهذه الفلسفات من دور مهم في التفجير للراكد التاريخي والتثوير لما هو معتاد، بحثًا عما هو حقيقي وأصيل.
ولا خلاف أنَّ جرجي زيدان في كتابه “تاريخ آداب اللغة العربية” كان مؤرخًا متقدمًا في دراسة التاريخ الإسلامي، ثم تبعه مصطفى صادق الرافعي في كتابه “تاريخ آداب العرب”؛ بيد أن الدكتور طه حسين اختلف عنهما، لامتلاكه منهجية (المرئي في التاريخ)، رافضًا الجدب المعرفي، متحصلًا في كتابه “في الأدب الجاهلي” على مباصرات تاريخية غير معتادة، شككتْ في الموثوق وحركتْ الساكن فيه، باعثة الحياة في الماضي، جاعلة النص التاريخي ممتدًا ومستمرًا، وهكذا وضع طه حسين نظريته في الانتحال، مسجلًا بذلك ريادة بحثية في دراسة تاريخ الأدب العربي.
وقد انبرى النقاد من بعد طه حسين يجددون في دراستهم للتاريخ، من خلال رؤيته رؤية نصية داخلية، باعتماد منهجية الوصف والملاحظة والتحليل. وواحد من هؤلاء العلماء الذين كرسوا حياتهم للدرس والبحث التاريخيين، متعاملين مع التاريخ بوصفه مرئيًا، تأثرًا بمدارس الفلسفة الألمانية، هو الدكتور جواد علي صاحب كتاب “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام”.
وفي هذا الكتاب السفر يتتبع العلامة جواد علي مختلف القضايا التي لها صلة بالتاريخ الجاهلي ومصادره وقبائل العرب وأنسابها وصلاتها مع الأمم المجاورة وشعائرها وحروبها وقصصها وأمثالها ولغاتها واللسان العربي والقرآن والشعر والفصاحة واللهجات. وما كان للتاريخ أن يكون بالنسبة للدكتور جواد علي مرئيًا لولا فلسفة تبناها، فأتتْ أكلها على شكل تاريخ مفصل، مستندًا إلى فلسفة عقلية تشكك في التاريخ لا بوصفه علمًا للحوليات، وإنما بوصفه نصوصًا لا يُحكم على صدق ما وصل إلينا منها مؤرشفًا ومسجلاً سوى ما تم اخضاعه لمنهجية (المرئي في التاريخ).
وما أغرى د. جواد علي في تاريخ العرب قبل الإسلام هو ما وجده في هذا التاريخ من مرئيات تاريخية على شاكلة تلك التي رآها قبله طه حسين، مقدمًا إضافات تاريخية عن العرب لم يسبقه في قسم مهم منها أيُّ باحث عربي قبله، لاسيما ما يتعلق بموضوعة اللغة العربية واللسان العربي.
* أكاديمية عراقية
وقد نضيف هنا أن في التَّنوع الكتابي تكمن المدرسة التي تجرد الناقد من امتلاك عدسات ملونة تتمحك بالتلاحم والتداجج والتباطط، مما ليس معه أنوية أو تراجع أو انفراد أو تطرف. وقد تميز طه حسين حقا، عن جورجي زيدان وصادق الرافعي وحتى عباس العقاد ومحمد حسين هيكل، لأن طه حسين كانت له رؤية ثافبة اخترقت الأطر المعروفة والنواميس المألوفة فأخرج من القواميس ما هو كامن وأظهر من النقد ما هو داشر، معلنا رؤية تجمعوية بعيدا عن الأنوية والمرزوحية المتنمطة في أسلاك الاستنارة البعيدة عن الإثارة،بينما ذهبت المدرسة المحوكمية في التبسيط المتخالل إلى أن تناغمات الهواجس المتعاطية مع المواقف المتلولبة إنما توحي ما قد يتعارض مع المنظومات المتضمنة في “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام”. ولا ندري لماذا قبل فقط ولم يكن بعد أيضا، ولكنه سؤال يظل مطروحا عند مرسى بحاجة إلى العلمين.
هناك جدليات كثيرة حول النقد الأدبي ، فجدلية تلد جدلية ، ثم يتفرع عنها تداجج وتباطط داشر ينتشر في أسلاك تجمعوية بعيدة عن الأنوية المرزوحية والمواقف المتلولبة…..