عامٌ جديدٌ أهل علينا، غير أن مقدماته ونُذره التي تجمعت في أخيه المنصرم، لا توحي بجديدٍ نترقبه أو فائض خيرٍ نرجوه، لا على المستوى المحلي ولا الصعيد الدولي، وكلاهما مترابطان؛ محلياً، لم تزل أنظمة الثورة المضادة، التي خرجت منتصرةً وإن جريحةً من موسم الهبات العاتية تحكم، بكل صلفٍ وغطرسةٍ وقسوةٍ، وقد قطعت شوطاً بعيداً في ترميم نفسها، خاصةٍ أجهزتها الأمنية، بالتوازي مع سحق المعارضين انتقاماً منهم وترويعاً للعامة. حتى السودان الذي أثبت ثوريوه عفويةً واستبسالاً وحساً نضالياً وفدائياً لا مثيل لهما، توشك أن تتعثر ثورته، وفي جميع الأمثلة، سواءً في نقاط تشابهها، أو على ما يشوبها ويحكمها من تباينٍ يمليه في الأغلب الظرف المحلي، تؤكد أزمة «النخب» المزعومة، والافتقار إلى التنظيم الثوري القادر على اقتناص الفرص الممكنة في الواقع السائل المتدفق.
كل ذلك بطبيعة الحال لا يحدث بمعزلٍ عن المتغيرات العالمية، بل يمثل امتداداً له، حيث نشهد صراعاً، صامتاً أحياناً وصاخباً عالي الصوت في أحيانٍ أخرى، بين وحوشٍ ضخمةٍ للسيطرة وإعادة تقسيم خريطة النفوذ، وما يتوافق مع مستجدات الثراء، والقوة العسكرية على الأرض، وهي كلها لا تأبه البتة لأي مُثلٍ أو أخلاقٍ، ولا تستلهم أي أيديولوجيا أو تدعيها (اللهم إلا الديمقراطية الأمريكية المزعومة التي لم تعد سوى أسلوب ضغطٍ وتكديرٍ، وكلمةٍ تخرج مبتذلةً متعهرةً بذيئة، من فم الساسة الأمريكيين) ولعل القاسم المشترك بينها هو التعالي على منطقتنا، التي لا يرون شعوبها إلا مستحقةً متواءمةً مع أنظمة كهذه، وبالتالي يولونها الدعم بأساليب متفاوتة.
وبالطبع هناك جائحة كورونا.
من دون أن ندري، تنازلنا عن أو سلب منا ما هو أكثر من الأحلام، لقد فقد أكثرنا الأمل في التغيير الحقيقي، وإن استمر يلهج بعبارات الثورة والتحرر
في المحصلة، نحن نعيش في زمنٍ كابٍ، بلا أحلام، فالناس (خاصةً في مصر) وقد عُصف بالثورات، ولم يجنوا منها سوى الخسائر والإحباطات والتردي في مستوى المعيشة، والقمع المضاعف، لم يعودوا يطمحون للأفضل، بل يخشون الأسوأ، وقد سيقوا وحصروا في ذلك الأخدود، عن طريق القسوة التي لا يخفيها النظام على الإطلاق، والإنجازات الوهمية، فالنظام الذي يمنع أغاني المهرجانات، يقيم مهرجاناته الشخصية الصاخبة، التي لا تقل إسفافاً وانعدام جدوى بدورها، مع فارق أنها أكثر تكلفةً وستترتب عليها تبعاتٌ كارثية، ستدفع ثمنها وتكتوي بجرائرها أجيالٌ قادمة عديدة؛ وعلى الصعيد السياسي، فلم يعد الحديث عن أي مساحاتٍ يمكن استغلالها أو توسيعها، أو مجالٍ عام سوى مزحة ثقيلة الظل للغاية، فالسيسي، كما أكرر دائماً، على فقر قاموسه اللغوي الذي يحاكي ضحالته الثقافية، كان دقيقاً وصادقاً بصورةٍ مدهشة (ربما دون أن يدرك ذلك) حين استخدم كلمة «القوة الغاشمة» فهو ونظامه لم يرتضِ إلا بها، فلم يكذب ولم يبالغ، ومن ثم صار أحد أهم أعمدة النظام هو الترويع، حيث انطلق يخوض ضد الجمهور حرب استنزافٍ حقيقية، فهو يحوم دائماً كالعقبان، ثم ينقض ليختطف الكثيرين، يساقون إلى السجون ذات الظروف غير الآدمية، البشعة، حيث يفرغ فيهم نهمه الذي لا يعرف شبعاً للانتقام، ذلك النهم، أو تلك الرغبة النابعة من ذاته الجريحة مما لحق به من إهانةٍ في يناير. لم يتبق أمام الجمهور العريض إزاء ذلك البطش غير المسبوق في تاريخ مصر الحديث، إلا الانكفاء تماماً والاكتفاء بالتصفيق، وربما إقناع الذات بتلك الأوهام والمشاريع الضخمة ضئيلة الجدوى أو عديمتها التي أقدم عليها السيسي، وليست في حقيقتها سوى توزيع أسلابٍ لنظامٍ يتعامل مع البلد كملكيةٍ خاصة، أو غنيمة حرب. أما نحن، المهتمون بالشأن العام (أو ما تبقى منه) فيُبح صوتنا وتتيبس أقلامنا كتابةً عن المساجين وضحايا التعذيب بصفةٍ عامة، خاصةً عن هذا وذاك ممن نعرف من المعتقلين دون وجه حق، ومن يعاد تدويرهم في قضايا مختلقة تماماً في متعةٍ سادية لا هدف منها سوى التلذذ والانتقام والإرهاب. غير أننا نفاجأ مسرورين بين الحين والآخر بإطلاق سراح الآحاد، أو القلة القليلة، وجُلهم جراء حملة ضغطٍ دولية لعلاقاتهم، أو كونهم حاملين لجنسياتٍ أجنبية، فنبتهج ونهلل.
آحاد… أو بضعة أشخاص
هذا حصادنا.. لا أحلام ولا تحرر.. لقد روضنا النظام (أو روض أغلبنا) بشكل ما، إذ أجهدنا فلم نعد نرى سوى في السلامة وبعض المفكوك أسرهم غاية المنى والمغنم،
لكنني حين أختلي بنفسي، أو أتقهقر للخلف خطوةً للتفكير ينقض عليّ سؤالٌ ملح: فما بال المنسيين؟ ما بال المعتقلين من غير «المشاهير»؟ هؤلاء الذين لا نعرف لهم أسماء ولا يدري بهم سوى ذويهم، والدائرة القريبة من المعارف والجيران؟ وهل المعتقلون وسجناء الرأي وحدهم هم ضحايا نظام السيسي؟ فأين المتقاعدون وكل ذوي الدخول الثابتة؟ العاطلون وكل من يسحقهم الغلاء ويجلدهم رفع الدعم؟ ما بال الخمسة الذين قتلوا بدمٍ بارد للتغطية على جريمة اغتيال ريجيني وغيرهم كثيرون يصفيهم النظام بصورةٍ متكررة ومنهجية، للتغطية على إخفاقاته الأمنية وفشله وانعدم كفاءته العسكرية؟ من دون أن ندري، تنازلنا عن أو سلب منا ما هو أكثر من الأحلام، لقد فقد أكثرنا الأمل في التغيير الحقيقي، وإن استمر يلهج بعبارات الثورة والتحرر كأذكار الدراويش (أو وجاهةً) وصار إذ يكثر من الحديث عن الظرف الموضوعي الرديء لا يعني مباشراً ينقب فيه عن نقاط ضعفٍ وإمكاناتٍ للثورة المقبلة، وإنما كمسوغٍ لقبول الهزيمة والحلول الفردية بخلاصها. لا شك في أن الواقع رديء، وأن الثورة المضادة تقف كصخرةٍ كؤود، رازحةً سادةً الطريق بثقل كل ما في الواقع من تخلفٍ وتشرذمٍ وضبابيةٍ وما ورائيةٍ وخداعٍ للذات، بكل موروث حقب القمع والتجهيل وتشويه الوعي، حقب البيات الشتوي الطويلة. ولا شك في أن استمرار أنظمةٍ ميتةٍ فاقدة المعنى كهذه في صورة مسوخٍ شائهة، أمرٌ يسحق النفس تماماً ويصدها، إلا أنه لتلك الأسباب تحديداً، يصبح التشبث الإرادي الواعي بالحلم وتصبح الكتابة فعل مقاومة.
في العام الجديد، كما في كل وقت، لا بد من أن نتذكر كل «المنسيين» أن نكون صوتهم، أن نقاوم الانجرار إلى لعبة النظام. لا بد أن نتذكر ونذكر أنفسنا بأن قضيتنا لم تكن أبداً محصورةً في حرية بعض المعتقلين، من المعارف والأصدقاء كالرهائن من براثن النظام (على أهمية هذه المعارك الصغيرة) بل يجب أن نتذكر أن المجتمع والبلد كله رهينة، وأن تحرره الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ككل هو قضيتنا ومعركتنا الكبرى، وفي سبيل ذلك يتعين علينا إيجاد الأفكار والاستراتيجية واللغة القادرة على الاضطلاع بهذه المهمة، ومن ثم الوصول إلى ذلك الجمهور الأوسع، المنسي، وإلا سنسقط ضحية الحصار الذي فرضه علينا النظام في ذلك الجيب الضيق المعزول.
كاتب مصري
مقال جميل كالعاده لكن اللغه يادكتور صعبه