أربعة عقود من النمو الاقتصادي السريع، وإلى جانبه إصلاحات عسكرية، مكنت الصين من التعبير عن “حلم تجديد شبابها الوطني”، وتوسيع مدى نفوذها في محطيها وفي العالم، وإظهار التصميم المتزايد في سياستها الخارجية، بالأساس منذ الأزمة الاقتصادية من العام 2008. في خططها بعيدة المدى اعتبرت القيادة الصينية الحداثة رافعة أساسية من أجل الازدهار، وحددت القدرات التكنولوجية الحيوية لمستقبلها.
الولايات المتحدة من ناحيتها استيقظت في السنوات الأخيرة وهي متفاجئة وغاضبة على “العقد المفقود” في حروب الشرق الأوسط، التي تنازلت خلالها عن المنصة للصين، بل وساعدت في صعودها. إدارة الرئيس ترامب، الذي احتلت الصين مكاناً رئيسياً في حملته الانتخابية، تدير حملة ضغوط شديدة ومستمرة لتحسين الميزان التجاري بين الدولتين العظميين، وتغيير شروط التجارة المتبادلة، التي تميل حسب رأيها إلى غير صالح الولايات المتحدة، وتعاني من الظلم. فرض الضرائب الثقيلة على الصين كوسيلة ضغط داعمة للمفاوضات، اعتبر في وسائل الإعلام “حرباً اقتصادية”، وعنواناً كبيراً يضع الموضوع بدون وجه حق في مركز تنافس الدول العظمى.
في نهاية العام 2017، نشرت الإدارة الأمريكية إستراتيجيتها للأمن القومي، واعتبرت علاقتها مع الصين كمنافسة إستراتيجية بين الدول العظمى، ووضعتها على رأس سلم أولوياتها. في الوثيقة نفسها، اعتبرت الحداثة والتكنولوجيا المتقدمة والنمو الاقتصادي دعامة أساسية في الأمن القومي للولايات المتحدة. في حين أن المعلومات اعتبرت مورداً حيوياً في القرن الواحد والعشرين مثل النفط في القرن العشرين. الولايات المتحدة، وفقاً لذلك، بدأت تعمل بنشاط ضد التهديدات الرئيسية التي تتماهى مع أمنها القومي: نقل تكنولوجيا مكثفة للصين بواسطة التجسس، وسرقة تكنولوجيا، ونشاطات أكاديمية وتجارية، ونقل المعرفة القسرية، وتأثير وسيطرة أجنبية على أصول البنى التحتية، والمعرفة والتكنولوجيا، ضمن أمور أخرى، بواسطة الاستثمارات والصفقات التجارية، واعتماد الولايات المتحدة على عناصر من إنتاج أجنبي في إطار سلاسل تزويد بالتكنولوجيا الحيوية، بما في ذلك مجال الدفاع والجيش، وإبعاد الولايات المتحدة عن الفضاء الهندي – الباسفيكي بواسطة دمج تعاظم عسكري صيني مع وسيلة تأثير اقتصادية – سياسية بنيوية تحتية “جيواقتصاد”، على رأسها مبادرة “الحزام والطريق” التي أعلن عنها الرئيس الصيني في 2013، وسعي الصين إلى تغيير النظام العالمي والمؤسسات الدولية، التي تم تشكيلها برئاسة الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، ثم تحدي الديمقراطية الليبرالية كنموذج للحكم السليم في العالم بواسطة نظام مستبد واقتصاد مركزي ورقابة وثيقة وقمعية على الأقليات ومعارضي النظام.
إزاء هذه التهديدات الواسعة والمتنوعة، التي تمتد إلى أرجاء كل العالم، توجد الولايات المتحدة في المراحل الأولى من بلورة سياسة ورد، سواء في الداخل أو إزاء شركاء وحلفاء. تغيير العلاقات التجارية ربما هو الجهد الأكثر نضجاً في تطبيقه، كما وصف أعلاه. ومن خلفه هناك مجال الاتصالات، وفي مركزه الجيل الخامس من وسائل الاتصال الخلوية. هذه هي البنية التحتية المستقبلية والحيوية لـ”الإنترنت” والسيارات بدون سائق والريبوتات والنشاطات الاقتصادية التي تحتاج إلى خبرة واسعة والنشاطات العسكرية. في هذا السياق، لاحظت الولايات المتحدة شركة الاتصالات الكبيرة في الصين “هاواوي” و”زيد.تي.أي” واعتبرتها لاعبة أساسية في المنافسة على تشكيل خارطة الاتصالات والمعلومات في العالم.
بعد عقد من الإعلانات عن دور “هاواوي” في خدمة الحزب الشيوعي في الصين، والجيش والحكومة، بدأت الولايات المتحدة بعدة خطوات ضدها، بما في ذلك وضعها في قائمة الشركات التي يسري حظر على بيع أجزاء وخدمات لها. اتهام شخصية كبيرة فيها بخرق العقوبات، وخطوات قانونية واقتصادية مختلفة. الولايات المتحدة أيضاً دعت أصدقاءها المقربين في ناتو “العيون الخمسة” (بريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزلندا) وشركات أخرى في العالم إلى الامتناع عن دمج منتوجات هاواوي في بنى اتصالاتها التحتية، بل وهددت بتداعيات قاسية على التعاون الاستخباري والأمني لها مع الولايات المتحدة إذا لم تفعل ذلك، لكنها أجيبت بردود مختلفة. على كل الأحوال، يبدو أن سياسة الولايات المتحدة ستسعى بالتدريج إلى فصل أنظمة عالمية معينة (في مجال الاتصالات المتقدمة) وفي مجالات أخرى ستواصل العمل في إطار اقتصاد العولمة المندمجة، وفي تطوير علاقاتها مع الصين بشروط محسنة.
الصين هي الآن “موضوع ساخن” في الولايات المتحدة، سواء في أوساط جهات مختلفة في الإدارة أو في أوساط الجمهور، في السياسة والقطاع الخاص. تشخيصها كتهديد رقم واحد على الأمن القومي يحولها إلى رافعة للدفع بأجندات مختلفة ومتنوعة، بدءاً من بناء القوة لأذرع الجيش الأمريكي ومروراً بالحفاظ على وتطوير وظائف في الصناعة الأمريكية التقليدية وتكنولوجيا متطورة وانتهاء بالقلق على حقوق الإنسان. حسب أقوال أحد الخبراء في واشنطن في سياسة الولايات المتحدة في آسيا: “تهديد الصين هو الآن محرك النمو لكل تنظيم في الولايات المتحدة”. وحجم المنشورات في وسائل الإعلام ولهجتها، تعكس ذلك بشكل جيد. من يعملون في هذا المجال يتحدثون عن تحول كبير للخبراء الأمريكيين في الشؤون الصينية إلى مواقف صقورية أكثر، بما في ذلك من كانت لديهم مواقف معتدلة نسبياً في السابق. في السياسة الأمريكية المتقاطبة والمنقسمة جداً، تظهر الصين بالتحديد كموضوع يسود فيه توافق سلبي بين الحزبين.
في موازاة ذلك، حدث في العقد الأخير نمو سريع في العلاقات بين إسرائيل والصين، اللتين اختارتا التركيز على الدفع قدماً بالعلاقات الاقتصادية والتجارية وتجاوز الفجوات بينهما في مجالات سياسية وأمنية وإستراتيجية. في بداية 2017، أسس الطرفان “شراكة شاملة للحداثة”. وبهذا عبرا من ناحية عن أساس الاهتمام المشترك، ومن ناحية أخرى امتنعا عن ذكر كلمة “إستراتيجية”، مثل كثير من شبكات العلاقات الصينية في العالم. منذ أزمات العقد السابق (إلغاء صفقة طائرات الإنذار “فالكون” في العام 2000، والسلاح المارق “هاربي” في العام 2005، بضغط الولايات المتحدة) من الواضح للطرفين أن التصدير الأمني وحتى مزدوج الاستخدام من إسرائيل إلى الصين هو خارج المجال. إسرائيل لاعبة صغيرة وهامشية في المنافسة العالمية، لكن تقارب مصالح القوى العظمى في ميزتها النسبية والابتكار التكنولوجي وتكنولوجيا الإنترنت، كل ذلك يعزز تحدي السياسة التي تواجهها. كبوابة محمية، ومن كلا طرفيها، ضمانات واسعة، فإن الأجهزة الأمنية تتضاءل بسبب التوسع المستمر في الأمن القومي للدول العظمى.
أصداء عاصفة الاتصالات في الولايات المتحدة تصل أيضاً إلى إسرائيل. في السنة الماضية حدثت زيادة تدريجية في حجم المنشورات في الولايات المتحدة، التي تصف بقلق نمو العلاقات الإسرائيلية مع الصين وتعتبرها دمجاً بين الخطر على الأمن القومي الأمريكي وإنكار الجميل من قبل حليفتها المقربة. في أساس هذه الأمور توجد فجوة عميقة بين إدراك التهديد في الولايات المتحدة وإسرائيل: في حين أن الصين بالنسبة لإسرائيل تشكل خطراً أمنياً معيناً، وإن تجربتها معها مقلصة نسبياً، وبالنسبة للولايات المتحدة تعد الصين هي التهديد الأول للأمن القومي: عسكرياً وأمنياً واقتصادياً وتكنولوجياً وإستراتيجياً وأيديولوجياً. حسب ما نشر في وسائل الإعلام، فقد ركزت استفسارات مسؤولين أمريكيين على مخاوف الولايات المتحدة حول ثلاث قضايا رئيسية: مراقبة الاستثمارات الأجنبية، ومشاركة الصين في ميناء حيفا، وإزالة الصين من البنى التحتية للاتصالات في إسرائيل في المستقبل. حسب التقارير، فإن تحذيرات أمريكية حول ذلك أسمعت في لقاءات رسمية بين ممثلي الحكومتين، ومؤخراً ذكرت في مشروع قرار للجنة القوات المسلحة التابعة لمجلس الشيوخ.
سياسة إسرائيل في مثلث العلاقات مع الصين والولايات المتحدة مطلوب منها الموازنة بين استغلال الإمكانيات الكامنة الكبيرة للصين من أجل تطوير اقتصاد إسرائيل، وبين إدارة المخاطر التي تنبع من ذلك: سواء بشكل مباشر على أمن إسرائيل نفسها أو بشكل غير مباشر على العلاقات الإستراتيجية مع الولايات المتحدة، التي تشكل الركيزة الأساسية للأمن القومي فيها. في قرارات الحكومة التي نشرت حول هذا الشأن (آخرها رقم 1687 من العام 2014)، هناك تأكيد واضح على استغلال الفرص مقارنة مع إدارة المخاطر. في السنة الأخيرة، يبدو أن تغييراً حدث في هذا الوضع، وحكومة إسرائيل منشغلة في بلورة رد على معظم المجالات والعثور على نقطة التوازن الصحيحة بين الاعتبارات الاقتصادية والأمنية. وكما هو متوقع، فإن جدول الأعمال مليء، والانتخابات المعادة لا تسهل على التقدم المرتبط أصلاً بتسوية التوترات بين جهات ومصالح متنوعة. في المقابل، تدير الحكومة حواراً متواصلاً مع الإدارة الأمريكية من أجل إزالة مخاوفها. ما زال رد الحكومة على تحدي الدبلوماسية العامة في مهده.
سياسة إسرائيل تعتبر الولايات المتحدة حليفة إستراتيجية، وتعتبر الصين شريكة اقتصادية مهمة. على سبيل النظام، هذا يعني تأييد الولايات المتحدة في كل المجالات التي تقتضي ذلك، وزيادة تحسين العلاقات مع الصين في جميع المجالات على أساس تقييم مخاطر مستقل وحوار وثيق مع الولايات المتحدة، من الصواب أن تستجيب إسرائيل لطلبات الولايات المتحدة في القضايا التي اعتبرتها تهديداً خطيراً على أمنها القومي، وبلورة رد منظم يقتضي وقوفاً قاطعاً إلى جانبها. في المجالات التي فيها ترى الولايات المتحدة نفسها ذات خطر أقل في العلاقات مع الصين أو ما زالت تبلور رداً وسياسات، يكون قد بقي لإسرائيل فضاء مرن أكبر لمواصلة تطوير علاقاتها التجارية مع الصين.
يبدو أن هناك أموراً بين المسائل التي طرحت أمام إسرائيل، فأمن البنى التحتية للاتصالات مع التأكيد على الجيل الخامس هو المسألة الناضجة المحددة والأهم للولايات المتحدة، تتبع ذلك مسألة الرقابة على الاستثمارات الأجنبية. في القضية الأولى لا يبدو أن هناك عناصر صينية ذات إشكالية في البنى التحتية للاتصالات المتقدمة في إسرائيل، وفي المسألة الثانية سيستمر تقدم كل العمليات الحكومية لإدارة المخاطر. بخصوص ميناء حيفا، حسب ما نشر وحسب المحادثات مع شخصيات رفيعة مقربة من السياسة الأمريكية، يبدو أن خطورة التهديد في نظر الإدارة أقل من المسألتين الأوليين، وأن المخاطر المحتملة المرتبطة به يمكن إدارتها بصورة مسؤولة دون إلغاء الصفقة.
بالنسبة للمستقبل، يمكن لإسرائيل الافتراض أن العلاقة بين الولايات المتحدة والصين ستستمر في كونها الأهم في العالم لعقود قادمة، وأن التوتر بينهما لن ينقضي مع تبدل الإدارات والرؤساء. الديناميكيات والديالكتيك في علاقات الدول العظمى وفي سياسة الولايات المتحدة تلزم إسرائيل بتحديث سياستها بصورة مستمرة وفقاً للتطورات والحوار المستمر. التحديات القادمة تظهر في مجال الذكاء الصناعي، أشباه الموصلات والروبوتات والحوسبة الكوانتية والفضاء والتكنولوجيا الحيوية والابتكار بشكل عام، وكل ذلك ينطوي على إمكانيات هائلة في مجال الاقتصاد والأمن والشؤون العسكرية. وفي الدول العظمى حددوا هذه المجالات بالفعل، لكن المناطق نفسها والسياسة بخصوصها في تشكل مستمر، سواء في حد ذاتها أو في الحوار مع واشنطن وبكين. من المهم لإسرائيل أن تتعلم تجربة الدول الأخرى في العالم التي تشترك معها في أصول مماثلة وتسعى إلى العمل في الفضاء الذي يقع بين القوتين العظميين.
حسب خصائص التحدي، على إدارة السياسات القومية تضمين العناصر التالية:
* إدارة العمليات التي يقوم بها مكتب رئيس الوزراء من وجهة نظر تكاملية لجميع الاعتبارات المتعلقة بإدارة مثلث العلاقات مع الولايات المتحدة والصين: الإستراتيجية والأمنية والاقتصادية والعلمية.
* زيادة الموارد المستثمرة حالياً في التعامل مع هذه المسألة في الهيئات الأمنية ووزارات الحكومة.
* حوار مستمر متعدد المنظمات مع الإدارة الأمريكية، وفقاً للهيئات المختلفة المشاركة في ذلك في الولايات المتحدة.
* تعميق الشراكة التقنية والاقتصادية مع الولايات المتحدة وحتى السعي من أجل “تحالف إستراتيجي للابتكار” معها، وبالتالي تعظيم رصيد إسرائيل بالنسبة لها.
* إدارة استباقية لتحديات الدبلوماسية العامة في إسرائيل والولايات المتحدة وفي وسائل الإعلام وفي مجلس النواب وفي السياسة، حيث بقيت المنصة هناك حتى الآن في أيدي الأصوات الانتقادية فقط.
* وفي المقابل، استمرار التقدم في العلاقات التجارية مع الصين في المجالات التي يكون فيها ذلك ممكناً وصحيحاً من منظور شامل.
* تسريع البنية التحتية للمعرفة القومية والأكاديمية لإسرائيل عن الصين الحديثة الذي لا يناسب مكانة الصين في العالم الآن وفي المستقبل، ولا حتى تحديات السياسة التي تواجه الحكومة الإسرائيلية.
بقلم: أساف أوريون
نظرة عليا 16/7/2019