حكاية البقرات الخمس الحُمْر التي انشغلت بها وسائل الإعلام الصهيونية؛ البقرات القادمة على متن طائرة خاصة، والتي حظيت باستقبال رسمي، البقرات التي يتمثّل العثور عليها من أجل ذبح واحدة منها، أو ربما كلها، إن كانت درجة احمرارها مطابقة لخرافة «كيان الشريعة اليهودية» المخترع، البقرات التي استحضرت لذبحها وحرقها لتطهير الداخلين برمادها فور بناء «الهيكل الثالث المزعوم» الذي يتوحشون الآن لبنائه مكان المسجد الأقصى، مدججين بالعنصرية ومزينين بالدم وشهوة القتل. هذه البقرات ذكرتني بحكاية بقرات الحياة في بيت ساحور خلال الانتفاضة الأولى، البقرات الـ 18، التي أرّقت الصهاينة وجيشهم، وقضّتْ مضاجعهم، وهم يبحثون عنها لتصفيتها وحرمان الأطفال الفلسطينيين من حليبها. حكاية البقرات الخمس ذكرتني بالمسافة بين قوة الحياة وانفلات الطغيان، مجسدة في المعنى العميق بين وجود بقرة عندنا وبقرة عندهم، وقد وثقتها مبكراً واستخدمتها في رواية لي، كما وثقها فيلم «المطلوبون الـ 18» الجميل المختلف الذي أخرجه الفلسطيني عامر الشوملي والكندي بول كوان.
بقرات «بيت ساحور»
بكاء طفل صغير، سمعه في أحد الشوارع شرقي دير اللاتين، كان كافياً ليذكّره بشيء ما، ولكن إسكندر الذي نسي تربية الأطفال منذ زمن بعيد، لم ينس أن الطفل يبكي عندما يتألم أو يجوع! ولذا، قفزت إلى عقله حكاية عمر بن الخطاب مع تلك المرأة التي كانت تطبخ الحجارة لأولادها إلى أن يناموا، لأنها لا تملك شيئاً تطعمهم إياه. همس لنفسه: لن نجد، بعد شهور في هذه الانتفاضة، سوى الحجارة التي نلقيها على الجيش الصهيوني نهارًا، طعامًا لأطفالنا ليلًا.
بسرعة غريبة مرّ خياله كطائر فوق «بيت ساحور»، من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، فتأكد أن ثمة شيئًا مفقودًا فعلًا. توقّف للحظات، دار حول نفسه لكي تتأكد عيناه مما رآه خياله، وقال: «بقرات، يلزمنا بقرات»، ولولا أن يقال إن إسكندر فقد عقله، لراح يصرخ في الشارع، كما لو أنه، وحده، مظاهرة: يلزمنا بقرات، يلزمنا بقرات.
لم يعد إلى البيت. أحسّ أن اجتماعًا يضم العدد الضروري من الناس لمناقشة أمر كهذا يجب أن ينعقد فورًا.
– هل تريدون أن تُقنعوا أنفسكم أن أطفالنا الرُّضع، وأطفالنا الذين يرشقون جنود الاحتلال بالحجارة، سيكون عليهم كل صباح أو في آخر كل نهار أن ينتظروا سيارات شركة تنوفا الصهيونية لكي تزوّدهم بالحليب؟ كيف سنستطيع أن نرجمهم ونحن ننتظر حليبهم؟ من زرع حوش بيته أو حاكورته الصغيرة أو قطعة أرضه التي يملكها، زرعها لكيلا يمدّ يده لمنتوجات الاحتلال، لكي يأكل من ثمرات أرضه، فكيف سيقنعني أنه اكتفى فعلًا، في وقت ينتظر فيه عبوات شركة تنوفا ليهزم جوع أطفاله؟!
أحبّ أن أذكركم أن عصيان بيت ساحور لم يبدأ بعد. نحن نناوش الاحتلال حتى الآن، وعلينا ابتكار شيء جديد لم تعرفه الانتفاضة بعد، تسألونني ما هو؟ سأقول لكم لا أعرف، فهناك أولادنا اليوم، وأحفادنا، وهم سيجدون الاسم المناسب لذلك الذي سنحقّقه، وعجوز مثلي على مشارف التسعين من عمره، ليس لديه سوى حكمة واحدة: لقد حقق الآباء والأجداد في كل زمان قفزة ما، نصرًا ما، أو هزيمة ما! لكن الذين يغيّرون الواقع نحو المستقبل دائمًا هم من يأتون بعدهم. هذا الأمر بدأ منذ أن حمل الإنسان عظمةَ حيوان ميت وطارد بها حيوانًا حيًّا، ومنذ النّبتة التي تذوقها خائفًا، أول مرة، بعد أن رأى حيوانًا يأكلها، إلى أن زرع تلك النبتة وروّض ذلك الحيوان، وأنشأ بستانًا للنّبتة وحظيرة للحيوان، حتى وصولنا إلى هذا الزمن الذي أصبحنا نحن البشر فيه داخل الحظيرة، والوحوش تقود العربات، والدبابات وتحاصرنا داخلها!
صمتوا طويلاً
– والحلّ؟ سأل أحدهم دون أن يرفع رأسه، أو يلتفتوا هم نحوه ليعرفوه.
– هذه المدينة لا ينقصها المتعلّمون، كما أثبتت أنه لا ينقصها الحزبيون الواعون، المنظَّمون، قال إسكندر.
– هل لدينا مهندسون زراعيون؟
وأجاب: أكيد.
– أطباء بيطريون؟
– أكيد.
– مزارعون؟
– أكيد.
– رعاة؟
– أكيد.
– ولكن ينقصنا أن تجيبنا على سؤال مهم؟ كم بقرة تلزمنا لنقفل الباب في وجه شركة تنوفا؟
– لنقل 15 بقرة، 20 بقرة، 25 بقرة، هذا ما نحتاجه في ظنّي، أجاب إسكندر.
– ومن يملك ثمن 25 بقرة في بيت ساحور ليشتريها؟!
– نحن، نحن نملك ثمنها.
– ما الذي تعنيه؟
– كم دينارًا في جيبك؟ سأله إسكندر.
– أنا؟ لماذا؟
– فقط قل لي.
مدّ السائل يده إلى جيبه وقال، وهو يضحك: ليس في الجيب غير هذين الدينارين.
– نعمة كريم! هل تستطيع أن تستغني عن واحد منهما لنشتري 25 بقرة به!
– إذا استطعت أن تشتري به بقرة واحدة، وليس 25، فها هو الدينار، ومدّ يده نحو إسكندر، فتناوله منه.
– «اعتبروا أننا اشتريناها»، قال وهو يمدّ يده إلى جيبه، ويخرج دينارًا، ويضعه فوق الدينار الأول أمامه على الأرض، ويسألهم من جديد: وهل يمكن أن أعرف ما في جيوبكم؟
في تلك اللحظة، فهم الجميع ما يفكر فيه إسكندر، فراحوا يخرجون ما في جيوبهم من نقود، في حين كان إسكندر يردد: دينار فقط، لا أكثر!
كان الجميع قد وضعوا ما في جيوبهم، ومن لم يكن معه ذلك الدينار، استدانه من أقرب شخص يجلس إلى جانبه.
وبعــد:
لم تصل بقرات بيت ساحور إلى هذه المدينة الأبية بطائرة خاصة، لقد دخلت إلى المدينة بالخفاء، وغدت مطلوبة ومطاردة، ومعها طورد كل من آواها وحماها وأطعمها وأسقاها، ووزّع حليبها، كي تستمر حياة أطفالها الذين ولدوا فيها كما ولد آباؤهم وأجداهم وأجداد أجدادهم، في حين عندما عثر الصهاينة على بقراتهم الحُمر، عثروا عليها هناااااك في تكساس، بقرات لا تمت بصلة «لبقرتهم الأولى»، كما لا يمت أي منهم لهذه الأرض التي زحفوا من كل أرجاء المعمورة لاحتلالها وتهجير أهلها، متناسين أن حالهم لا يختلف عن حال بقرتهم الجديدة، فدائمًا سيظلون وبقراتهم هم الدخلاء.