المواجهة الجيوسياسية بين أمريكا والصين: ماذا لو تجاوز التنافس مداه؟

منظمة التجارة العالمية وظيفتها الأساسية هي تيسير عمليات التجارة الدولية عن طريق منع الحروب التجارية، بما تعنيه من فرض رسوم تمييزية ظالمة على البضائع المستوردة، ووضع حواجز أمامها، ولكن الإدارة الأمريكية بقيادة دونالد ترامب، تكسر معظم المواثيق والأعراف الدولية، وتضيف إلى رصيدها مزيدا من تأزيم العلاقات الدبلوماسية، وإذا تجاوز التنافس الأمريكي الصيني مداه فسيخلف آثارا مدمرة.
وعلى نحو ينهل من الواقعية الجيوسياسية، فإن سبب القناعة الراسخة بأن الصراع سيأتي لا محالة، يكمن أساسا في الفارق المفصلي بين الصين، وكل القوى الاقتصادية الموجودة حاليا، حيث لا توجد بين كل الدول الصاعدة اقتصاديا الآن دولة قادرة على منافسة الولايات المتحدة عسكريا واقتصاديا سوى الصين. فتقدم الصين في تشكيل التحالفات في الوقت الحاضر يأتي من حركيتها ونموها وقوة تواجدها الخارجي، عبر استثمارات في مختلف أنحاء العالم، والأهم في كل ذلك أن براغماتيتها الخالية من المطالبات، انبنت على قاعدة المنافع المتبادلة وليس القوة والإكراه كسياسة متبعة أمريكيا منذ عقود.
وتتطلع بكين منذ مدة للحصول على منافع الاستثمارات الخارجية، بدون أن تتكلف ثمن «الكراهية» على المستوى العالمي، كقوة استعمارية، وهي الصفة التي ارتبطت بواشنطن وخروقاتها الخارجية، وما انجر عنها من تدمير لدول كانت تعيش بسلام. ويبدو أن الإدارة الحالية تلوح من جديد باستعادة الخيار العسكري رديفا للحرب الاقتصادية التي تشنها على أكثر من صعيد، على الرغم من أن الولايات المتحدة، نجحت سابقا في استخدام وسطاء إقليميين في حروب بالوكالة شُحِذت فيها الطائفية، واُستُغِل العامل الثقافي والعرقي والمذهبي في خلق التفرقة  والاقتتال، ضمن مشروع «الفوضى الخلاقة». وهي مسارات مغايرة للقوة العسكرية المباشرة، التي كانت لها أثمان بشرية ومعنوية ومادية كبيرة، ووجدت في «التغيير عن بُعد» الوسيلة الأقل تكلفة، وبدا من الممكن أن تكون «قوة التعاون الطوعي» بديلا للقوة العسكرية المباشرة، من جهة القدرة على تشكيل ما يُريده الآخرون بالاعتماد على «طيف السلوك غير الآمر». إنها القوة الجذابة أو هي القدرة على امتلاك الجاذبية للتأثير في سلوك الآخرين، من دون إرغامهم بتهديد أو إغرائهم بمورد مادي. وهي القدرة على كسب العقول والقلوب في آن لتحقيق الأهداف الاستراتيجية التي ترجُوها أمريكا، وحث عليها مفكروها الذين يؤثرون بطريقة غير مباشرة في القناعات السياسية للبيت الأبيض، وتظهر نظرياتهم في مستوى التطبيق داخل الإدارة الأمريكية. وهذه القوة تحمل في جوهرها قدرة أمة ما على التأثير في أمم أخرى، وتوجيه خياراتها العامة، استنادا إلى جاذبية نظامها الاجتماعي والثقافي، ومنظومة قيمها ومؤسساتها بدل الاعتماد على الإكراه أو التهديد.
كلا الدولتين على خلاف وفي صراع نحو الهيمنة الجيوسياسية، واحدة هي القوة العظمى الحالية التي تتخبط في مجدها المغرور، والأخرى هي أهم منافسيها، وفي ظل هذه المعطيات المعقدة، فإن المواجهة العسكرية ممكنة، لكن مثل هذا الصراع المدمر يمكن تجنبه. فالولايات المتحدة والصين تتشاركان خطر هلاك اقتصادي أقله صعوبة الانتصار حال خوض حرب نووية، والطرفان سيخسران لا محالة والأفضل لكليهما تجنب التصعيد الذي يهدد استقرار العالم، والبحث عن حلول اقتصادية مربحة لشعوبهم، خاصة بعد أزمة الجائحة العالمية، التي ستكون تكلفتها شديدة وربما «مروعة» لاسيما بالنسبة للفقراء والفئات الأكثر ضعفا، وكلا البلدين فيهما من هذه الأصناف الاجتماعية ما يعد بالملايين. وقد رأى تشومسكي مؤخرا أن الإدارة الأمريكية الحالية، التي تلقت تحذيرا مسبقا من احتمال حدوث جائحة قد تعاملت «بطريقة تجارية» مع الأزمة، ما يجعلها «أكبر جريمة في التاريخ» إذا نظرنا للعواقب. ويبدو أنه على حق عندما يتجاوز عدد ضحايا الوباء عتبة المئة ألف وفاة داخل الأراضي الأمريكية وتفوق نسبة البطالة 30 مليون شخص.

يمكن للصين وأمريكا أن تستمرا في السعي لبناء استراتيجيات تعاون، رغم وجود صراع حول فكرة الريادة

ومن الجيد أن يستجيب أولئك المهتمين بإعادة بناء مجتمع قابل للحياة، من بين «الحطام» الذي ستتركه الأزمة الحالية، لدعوة المؤرخ فيجاي براساد، الذي قال «لن تعود الأمور إلى طبيعتها، لأن الوضع الطبيعي كان هو المشكل». وبدل فهم الأمور بشكل أفضل، وإعادة اكتشاف شكل ما من أشكال الإنسانية يتواصل التوظيف السياسي للجائحة سبيلا لتغطية فشل السياسة الداخلية في التعاطي مع الوباء، وخدمة لأهداف انتخابية مقبلة، وإذا لم تحسن الدول الكبرى حساباتها فإن سباق التسلح بأحدث المنظومات الدفاعية والهجومية يدفع باتجاه مزيد تأزم العلاقات الدولية، بما يرجح حدوث حروب شاملة، لا تقف عند النزاعات التجارية والعقوبات الاقتصادية. ويبقى التعاون، كما أكد أمثال نوح فيلدمان هو الآلية التي يجب أن تستخدمها الدول «كي لا يبتلعها التنافس»، وقد دعمت في رأيه الحرب الباردة بأدلة جوهرية، هذا التصور الواقعي عن التعاون الدولي على اعتبار أن القانون الدولي النافذ يمكنه أن يتعايش مع الصراع الرئيسي بين القوى العظمى، ليفتح مساحة للتحسن، ويمكنه أن يخفف من حقيقة التنافس المؤلمة، وإن كان لا يغيرها جذريا. فكل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي كانا يستخدمان الأمم المتحدة، من أجل إدارة مخاطر اشتعال حرب نووية، والتقيا في هذه المنظمة من أجل مناقشة مشاكلهما، لكن في وقت آخر كانت أسلحتهما مصوبة دائما بعضهما نحو بعض. وبالمثل يمكن للصين وأمريكا أن تستمرا في السعي لبناء استراتيجيات تعاون، رغم وجود صراع حول فكرة الريادة وواقعية المواجهة الجيوسياسية المتعلقة بالتحجيم من ناحية، والضغط العسكري والاقتصادي من ناحية أخرى.
كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول خالد مصطفى الجزائر:

    نتمنى أن تنهض حرب بين الصين والغرب ويدمران بعضهما البعض ونخرج من التبعية الغربية ونصبح دول ذات سيادة كما يقال اللهم أضرب الظالمين بالظالمين وأخرجنا منهم سالمين.

إشترك في قائمتنا البريدية