في مقالتين سابقتين تحدثنا عن السياسات الارتجالية التي حكمت الموازنات الاتحادية العراقية المتتالية، ومن ضمنها موازنة العام 2019 التي تم إقرارها مؤخراً، والتي كشفت تكريسا لهذا الارتجال على مستوى واضعي السياسات، كما كشفت التعديلات التي اقترحها او أدخلها مجلس النواب على هذه الموازنة، حضور هذا الارتجال على مستوى المشرعين أيضا، لتتحول الموازنة المفترضة إلى مجال للمصالح الحزبية والجهورية والشخصية أيضا!
استخدم البنك الدولي مصطلح «إعادة إعمار ما بعد الصراع» لأول مرة في العام 1995، وهذا المصطلح لا يحيل على مجرد إعادة إعمار البنية التحتية، أو على إعادة بناء الإطار الاجتماعي والاقتصادي الذي كان قائما قبل بداية الأزمة، ولكنه يشير إلى بناء الظروف الملائمة لإقامة مجتمع فاعل في وقت السلم.
ويرى البنك الدولي أن إعادة الإعمار تسعى للوصول إلى هدفين: تسهيل الانتقال إلى السلام المستدام بعد توقف الأعمال القتالية، ودعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية. من منطلق ان الانتعاش الاقتصادي يعتمد على نجاح هذا الانتقال إلى السلام المستدام من جهة، وعلى إعادة بناء الاقتصاد المحلي واستعادة امكانية الوصول الى الموارد الخارجية.
وثمة اتفاق شبه كامل بين الباحثين الذين درسوا هذه الحالة أن فرصة إعادة الإعمار في العراق قد تمت إضاعتها!
يشير انتوني كوردسمان في تقييمه لجهود إعادة الإعمار في العراق بعد 2003 أنها كانت: «طموحة بإفراط، ومفككة، وضعيفة التخطيط»! وهو يتطابق إلى حد بعيد مع تقييم المفتش الأمريكي العام لإعادة إعمار العراق في تقريره الأخير المعنون: «»الدروس القاسية ـ تجربة إعادة الإعمار في العراق» (2009). إن مراجعة برنامج إعادة الإعمار يكشف عن افتقاد إلى الرؤية، وضعف التخطيط، فضلاً عن العشوائية التي حكمتها، مما تسبب في تحولات راديكالية من منظور إلى آخر، بنوع من الارتجال، فاقم في هذه العشوائية. ومراجعة سريعة لحجم الاموال التي صرفت على إعادة الإعمار في العراق بين عامي 2003 و2010 والمخرجات التي نتجت عنها تكشف عن كل ما تقدم.
ويؤكد فردريك جولتنغ في دراسته: «أبعاد الفساد في إعادة إعمار ما بعد الحرب»، إلى ما يسمّيه «التوليفة الفريدة من العوامل التي توفر فرصا معينة للفساد» في حالات إعادة الأعمار! وقد ركزت الباحثة الباكستانية بشرى حميد في دراستها الخاصة بإعادة الإعمار في أفغانستان المعنونة: (الصراع، إعادة إعمار ما بعد الحرب، والفساد) على دور الفساد المؤسسي الذي رافق هذه العملية! إذ تشير إلى ان الفساد كان واحداً من أكبر التحديات في نجاح برامج إعادة الإعمار، ذلك ان ما بعد الصراع يوفر بيئة مؤاتيه للفساد مع إمكانية الافلات من الملاحقة والعقاب! وإلى أنه يجب التركيز على بناء مؤسسات الحوكمة التي تسهل التنمية المستدامة والعادلة. وهي الحالة التي واجهناها في برامج إعادة الإعمار العراقية، حيث كان الفساد البنيوي سيد الموقف بطريقة غير مسبوقة!
يكشف تحليل قانون الموازنة لعام 2019 بوضوح بأن عملية الإعمار تفتقد تماماً إلى الرؤية وإلى الاستراتيجية
يكشف تحليل قانون الموازنة لعام 2019 بوضوح بأن عملية الإعمار تفتقد تماما الى الرؤية، والى الاستراتيجية، كما يكشف عن استمرار العشوائية في ما يتعلق بالمشاريع المتعلقة بهما، وعدم تحديد للأولويات. فالقانون لم يلتفت إلى النازحين إلا في مادة وحيدة عندما عمد إلى مناقلة مبلغ 430 مليار دولار من المبالغ المخصصة للنازحين من وزارة الهجرة والمهجرين إلى تخصيصات المحافظات والمناطق التي خضعت لسيطرة داعش «لغرض دعم إعادة الاستقرار وإعمار البنى التحتية أو مشاريع جديدة في إعادة النازحين». وتم توزيع هذا المبلغ على محافظات: نينوى (135 مليار دينار)، والأنبار (120 مليار دينار)، وصلاح الدين (100 مليار دينار)، وديالى (25 مليار دينار)، وكركوك (25 مليار دينار)، وقضاء المسيب (30 مليار دينار) من دون أن يحدد القانون أية أولويات لصرف هذه المبالغ، فضلاً عن أن هذا التوزيع لم يلتفت إلى احتياجات النازحين الحيوية في مناطق النزوح الرئيسية! وهذا يعني أن الموازنة لم تحدد مبالغ مخصصة بشكل مباشر للنازحين في مناطق النزوح بأي شكل من الأشكال! ولم تحدد طرق توزيعها على النازحين في هذه المناطق، إذ لم يحل الإشكال حول هل ستخصص محافظة من هذه المحافظات مبالغ للنازحين اليها من المحافظات الأخرى، أم سيقتصر التوزيع على النازحين التابعين للمحافظة نفسها؟ كما أن الربط بين مسألة إعادة النازحين بمسألة إعادة إعمار البنى التحتية سيتيح للمحافظات التصرف بهذه التخصيصات بطريقة ارتجالية، لا يمكن معها ضمان ذهاب هذه الاموال للغرض الذي يفترض أنها خصصت من أجله، وهو إعادة النازحين الى مناطقهم بعد إعمارها. وإذا أضفنا حقيقتي الفساد وسوء الإدارة المتأصلتين في عمل مجالس المحافظات وعمل المحافظين فإن النتائج ستكون كارثية بكل تأكيد.
وفي سياق إعادة الإعمار دائما، يكشف قانون الموازنة عن غياب التصور أو التخطيط في ما يتعلق بهذه المسألة. فالمبالغ المخصصة لإعادة الإعمار إما تم توزيعها بطريقة غير مفهومة، أو أنها خصصت تحت عنوان واسع هو إعادة الإعمار، وبالتالي ترك للجهات المختلفة التنازع على أولويات صرف هذه المبالغ. وعلى سبيل المثال تم تخصيص جزء غير محدد من قرض الوكالة اليابانية للتعاون الدولي البالغ ملياري دولار لعنوان غير واضح هو: «مشروع إعادة إعمار المناطق المتضررة من العمليات الإرهابية»! كما خصص مبلغ 80 مليون دولار من قرض بنك التنمية الألماني لتمويل «مشاريع إعادة إعمار المناطق المحررة من الإرهاب»! فيما وجدنا قانون الموازنة يحدد بدقة المبالغ المخصصة لمشاريع محددة أخرى مثل تخصيص مبلغ 15 مليون دولار من قرض الصندوق السعودي للتنمية لهدم وبناء مستشفى الصقلاوية! ثم يعود ليخصص مبلغا محددا من قرض بنك التنمية الإسلامي لمشروع هدم وبناء المستشفى نفسه!
ولعل المثال الأوضح في قانون الموازنة على غياب الرؤية والعشوائية في ما يتعلق بإعادة الإعمار، هو تخصيص جزء غير محدد من قرض الحكومة الفرنسية والوكالة الفرنسية للتنمية البالغ 300 مليون يورو «لغرض تأهيل مطار الموصل الدولي لصالح وزارة النقل»! في الوقت الذي لا تزال فيه جثث المدنيين تقبع تحت الأنقاض، وفي الوقت الذي تفتقد فيه المدينة، تحديداً الجانب الأيمن الذي يقع فيه المطار، إلى أبسط مستلزمات الحياة الكريمة للمواطنين!
ليس ثمة شكل واحد يمكن اعتماده في حالات إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الصراع، فلكل حالة خصوصيتها وسياقها الموضوعي، ولكن بالتأكيد ثمة مقاربات منهجية تتعلق بتحديد الاولويات ووضع الاستراتيجيات الخاصة بإعادة الإعمار، من بينها أنه يجب أن يتوافر إطار سياسي لإعادة الإعمار. كما أن برامج إعادة الإعمار لا تنفصل مطلقاً عن الإصلاح الهيكلي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وامنيا، كما لا تنفصل عن قضايا جوهرية مثل العدالة والمصالحة، والحكم الرشيد والشفافية والمساءلة. وهذه الحقائق والمبادئ جميعها غير مفكر فيها في العراق!
كاتب عراقي
يجب إعادة إعمار الإنسان العراقي من جديد! وأقصد الطائفية ومخلفاتها!! ولا حول ولا قوة الا بالله