سأتطرق اليوم لحدثين محليين شغلا بال الناس، وتصدرا عندنا واجهات المواقع الإخبارية والثرثرات الاجتماعية. ورغم كونهما منفصلين تماما، أشعر بوجود رابط وثيق بينهما، وأرى أنهما يعبران، كلٌ بمكوناته، عن وجود الأزمة الخطيرة نفسها التي تعبث في قسمات هويتنا، وتؤثر فينا وعلينا كمواطنين في إسرائيل.
كان الشارع الرئيسي في مدينة عرابة الجليلية مسرحًا لجريمة قتل امرأة عربية جديدة تدعى وفاء عباهرة، طعنت في وضح النهار حتى فارقت الحياة، وتركت على صفحة النسيان خمسة تذكارات صغار سيكبرون على أهداب الحسرة ودروب الضياع.
وقعت الحادثة يوم الاثنين الفائت؛ فبدأت المواقع الاخبارية وصفحات التواصل الاجتماعي بنشر تفاصيلها، ومعلومات عن الضحية وعن المشتبه في قتلها، الذي كان على ما يبدو طليقها؛ وتوالى الشرح عن فصول في حياتهما، وعن محطات في مسيرة زواجهما وعثراته، حتى الوصول إلى مشهد موتها التراجيدي.
سوف ينشغل الإعلام بعد أيام قليلة بمأساة جديدة، وسينسى الناس اسم وفاء كما نسوا اسماء الأربع عشرة ضحية اللواتي كن قد سقطن قبلها منذ مطلع العام الحالي، أو أسماء عشرات القتلى الرجال الذين أعدموا في شوارع قرانا ومدننا، بعمليات إجرامية تُمارس يوميًا، وبدون روادع على الإطلاق؛ سوف ننسى!
من منا، نحن أحفاد الرمل، بحاجة إلى مسارح الخوف، وإلى قصص الخيال، ومن يريد أن يتذكر سجلات «الوفاء» المستحيل وصور الخواصر المبقورة ؟ وكما في كل مرة ذبحت فيها امرأة عربية على خلفية ما يسمى «شرف العائلة» أو لكونها ذلك «الشيء/المتاع» الذي يملكه بعلها، أو أفراد عائلتها وقبيلتها، تَدافَعَ، هذه المرة أيضًا، عشرات من السياسيين والناشطين/ات الاجتماعيين/ات ومعهم فَراشُ الإلكترونيات الدائم الحومان؛ وأطلق الجميع سهامهم نحو قلب العبث، وأسهبوا في تحليل أسباب وقوع هذه الجريمة، وعددوا قوائم المتهمين بها وبغيرها، بينما حاول بعضهم اقتراح بعض الحلول لمواجهة الظاهرة أو سبلًا للحد من تفشيها.
لم يُتفق، كما في المرات السابقة، على تشخيص أسباب انتشار ظاهرة قتل النساء، ولم يُتوافق على كيف يجب أن تصنف تلك الأسباب، حسب أهميتها وتأثيرها؛ وبقيت المسألة رهينة بين نظريات المؤامرة الصهيونية، واستبداد هوية الصحراء، أو تداعيات مجتمعات الحداثة والاستهلاك. لم أقرأ بيانًا باسم القائمة المشتركة في أعقاب حدوث الجريمة، مع أن أخبار القائمة كانت تملأ الفضاءات، لاسيما بعد انتشار الانتقادات العنيفة بحق النائب منصور عباس، وبعد أن اتهمه شركاؤه في القائمة عن حزب التجمع الوطني، وعن الجبهة الديمقراطية، بالتفرد في اتخاذ قرارات لا يوافقون عليها سياسيًا، وبإطلاقه بعض المواقف الخلافية التي عكست فهمه لطبيعة التواصل مع الحكومة ورئيسها نتنياهو، وموقفه ازاء وسائل التعاون مع مختلف الوزارات، وبالاخص مع وزارة الشرطة ورؤيته الودودة الخاصة لدورهم في مواجهة الجريمة والعنف المستشري في مجتمعاتنا.
لا يمكن ولا يجوز أن نرى بما حصل في قضية النائب منصور عباس، كتعبير عن نزوة شخصية، ولا أرى بما فعله تجليًا لنجومية يسعى وراءها، كما حاول البعض أن يدعي؛ ففي هذه الحالة، وبخلاف لتصرفات نجومية مارسها في الماضي، أو قد يمارسها مستقبلًا، هو أو بعض زملائه، كان تصرفه نابعًا عن إيمان مطلق بصحة طريقه السياسي، الذي يعبر عن طريق حركته الاسلامية، وعن قناعتهم المذهبية الخاصة بمفهوم المواطنة، وبحدود الوسائل المجازة لممارستها. فالنائب منصور عباس يؤمن بضرورة التصرف «الذرائعي» البراغماتي حتى النهاية، لأن تأمين المنافع لابناء المجتمع هو غاية الغايات وهدفه من وراء دعوة رئيس الحكومة وضباط الشرطة لجلسة لجنة مكافحة العنف في الوسط العربي، التي يرأسها باسم القائمة المشتركة، كان كما صرح «تحصيل قرار بخطة حكومية لمكافحة العنف والجريمة، وليس لتسجيل موقف ضد الحكومة أو الشرطة.. فأنا» هكذا أجاب جميع منتقديه «أعي جيدًا الفرق بين التواجد في مظاهرة رفع شعارات، والتواجد في جلسة رسمية لاتخاذ قرار».
لن نعبر إلى ضفة مستقبلنا الآمنة الأخرى إذا لم نتعاط مع الأسئلة الصعبة، ونضع لها الإجابات الصحيحة
لقد رفض النائب منصور جميع التهم والانتقادات الموجه إليه من شركائه، الشيوعيين والقوميين، واتهمهم، بالمقابل، باحتكار سياسة التخوين، التي حسب رأيه لم تبدأ ولن تنتهي بمنصور عباس؛ فالوحدة السياسية عنده وعند حركته لا تعني بالضرورة ما تعنيه لدى سائر مركبات القائمة، وهو لم يخفِ ذلك، حين كتب على صفحته بوضوح، وأكد على أن «ثوابتنا العقائدية والوطنية واضحة، ولم ولن نقدم بها أي تنازلات ولن نساوم عليها» فجميع حركات الإسلام السياسي لا تساوم بأمور الثوابت العقائدية، خاصة في مواجهة حركات معادية لها سياسيًا وعقائديًا. وهذا أيضًا ما يجعل مفهوم «الوطنية» لديهم سائلًا ومتحركًا، ولا يمكن صبه في قالب ثابت. وكما نرى فهو يعرف الوطنية «بان تعمل من اجل شعبك ومجتمعك والا تقوم بتصرفات قد تضر بمصالحه» ولا يقر بكون هذا التعريف فضفاضًا وتضليليًا إلى حد بعيد، وخاليًا من العمق السياسي ويبقي حدود العمل الوطني غير معرفة، بل يمكن مطها حتى تصل إلى حضن «السلطان» أو إلى مسايرة سياساته أو مقايضتها، باسم البراغماتية، خاصة إذا مكنتك تلك «القيادة» العملية من تحصيل بعض المكاسب المنفعية لصالح «شعبك» ومجتمعك . لا يمكن التجسير على هذه الهوة التي حفرت، ولن يسعى النائب منصور إلى ردمها بسهولة؛ فالمواطنة، كما يحاول هو أن يمارسها، ليست هي المواطنة نفسها التي ينادي بها إخوانه في القائمة المشتركة؛ والوطنية التي يعمل هو بهديها، لا تشبه وطنية شركائه على الإطلاق، علاوة على أن هوية النائب منصور تختلف بالتأكيد عن هوية زملائه في القائمة؛ فهو وإخوانه في الحركة الاسلامية سيعرفون انفسهم أولًا وثانيًا وثالثًا كمسلمين لا يساومون، وحقهم طبعًا، ولا يتنازلون عن ثوابتهم ويجاهدون من أجل وطن مشتهى هو دولة الخلافة التي يسعون لإقامتها بدون هوادة أم مهادنة.
كما ستبقى ثوابته الاجتماعية حواجز تبعده عن زملائه في القائمة في عدة قضايا مثلما حصل في مسائل حقوق بعض الجماعات والأفراد والنساء، لاسيما من تعتبرهن العقيدة العاصيات أو الزانيات أو الناشزات أو المتحررات أو الفاجرات أو المتبرجات؛ وما يعد لهن من قصاص وعقاب وحدود. فمكانة النساء وحقوقهن كانت وستبقى محور صدام وارد بين مركبات القائمة، فلا الوطنية تسعفهن، ولا المواطنة تنجيهن ولا الثوابت الهوياتية تشفع لهن. ستبقى جرائم قتلهن باسم ذلك «الشرف المخاطي» في المجتمعات العربية شائعة، كما كانت من أيام العرب الاوائل، وسهلة الممارسة ما بقيت حاضناتها تمتح من عمق آبار ثقافتنا الموروثة منذ قرون، وتتأثر من عناصر هويتنا الاجتماعية المحنطة، وتعشش في عرى حكام خضعوا لسطوة القبائل ولقوة العقائد، ورفضوا تحريم هذا النوع من القتل، وابقوا في قوانين دولهم (ما عدا تونس ولبنان وفلسطين) بنودًا تعفي القاتل باسم «الشرف» من العقاب بشكل تام أو تخفف حكمه بشكل كبير. لقد قتلت وفاء في وسط شارع رئيسي وأمام اعين المارة، وستتحول قريبًا إلى رقم يضاف إلى قوائم الإحصاء، وفي نشرات مؤسسات المجتمع المدني، وسيمضي النائب منصور وحركته برسم معالمهم على طريق مواطنة منقوصة، وستبقى شوارعنا ممالك للعرابيد، وبيوتنا حيّزات هشة ومستباحة، وسينام الناس وهم يلعقون عجزهم مثل القطط، ويدفن بعضهم موتاهم بصمت ويعودون إلى «كهوفهم» بقلوب يدميها الجزع.
لن نعبر إلى ضفة مستقبلنا الآمنة الاخرى إذا لم نتعاط مع الأسئلة الصعبة، ونضع لها الاجابات الصحيحة: فمن نحن؟ هو سؤال الأسئلة، وماذا نريد؟ هو السؤال التالي، وكيف سنصمد وننتصر؟ ثم يأتي بعده، ومن يقود، ومن يقرر في ماذا، هما المحك لانتقاء الطريق والحلفاء وللحذر من المنزلقات والاعداء.
كاتب فلسطيني