1
لا نتحدث كثيراً عن الموت، لا نحب أن نفعل ذلك.
لكننا نموت، على أية حال.
وإذا تحدثنا عن الموت، فسوف نفعل ذلك في ابتسارٍ واختزال مخلِّيْن جداً.
بَعضُنَا شبه مؤمن بأن الشخص الذي يتحدث عن الموت.. يموت عاجلاً.
وكأن الساكت عن الموت.. موتٌ خالد.
أنتَ لن تموت عندما تريد ذلك.
يأتي إليك في الوقت غير المتوقع. دائماً يأتي مباغتاً، وغادراً، في أي سنّ كنت.
2
المتنبي، قال مرةً، في إحدى مراثيه، واصفاً الموت «كما لو كان قتلاً» من دون أن يخصّ أحداً بالتهمة. بالطبع لا نعرف متى نموت، والذي قال ذلك، لم يحدد لنا ساعةً أو موعداً. لا أحد يعرف أنه سيموت، لكنه سيفعل ذلك حتماً.
3
الموت الطفيف الذي يحدّق بنا في السنوات الأخيرة، ليس حالة عابرة. إنه خيال مآتة يشبح ويتشبّح علينا، كما لو أنه موكل بِنَا ومسؤول. موت ماثل، لا يتقدم ولا يتأخر ولا يذهب، ويراوح بين الحالة الفردية والمناخ الشامل. ليس موتاً كاملاً على وجه التعيين، لكنه يتميّز بالمواصفات نفسها التي يبدو عليها من يأخذ الأشخاص خطفاً غادراً، من غير مرض ولا عجز ولا قصور. موتٌ لا يكتمل لنا ولا يتأخر عن مواقيته عند أكثر الناس اطمئناناً.
4
موتٌ، هو الآن في درجة النضج شبه الواضحة، غير أنه لن يحسن أداء دوره الأثير معنا. هل راقبتم قطاً يلعب بفأرته قبل ذلك؟
هكذا، على وجه التقريب، أرى الموت يفعل بنا. على الأقل كلما التفتُّ زاعماً أنني سأنهر موتاً وشيكاً لكي يكفّ عن التلاعب بِنَا. هكذا أراه، ينال غاياته، من دون أن يقدم على فعلته. كيف تسنّى له كل هذا الترف، في مائدة هيّأتْها له جوقةٌ من الأشباح المبجّلين. كيف تسنَّت له لعبة تبادل الأنخاب مع أكثر الكائنات اتزاناً، من دون الترنح ومزاعم الرقص.
5
موت لا يقتلك كما المبارزات، ولا يغفر لك ولا يعفو عنك، ليس ثمة تكافؤ معه. لكأن الحياة هي جريرتك التي لا تقبل المغفرة. فالموت عقابك الأكيد على جريرة لم تخترها ولم تنتخبها، وليس لك رأيٌ فيها. موتٌ يأتيك من حيث لا تدري ولا تريد. موتك ينتخبك انتخاباً من دون العالم. وليس لك الاعتراض.
6
حسناً،
ما فائدة أن تعيش بلا موت. لكأن الحياة بلا نهايات.. جحيمٌ يتماثل كل يوم. ما الفائدة، وأنت تنتهي من تأدية برنامجك اليومي، لتظل مجبراً على ترتيب برنامج اليوم التالي. تلك رتابة ينبغي عدم الركون إليها. ما فائدة صبرك على حياة بهذه الدرجة من التكرار. ربما كان على الموت أن ينقذك من سأمٍ قاتل مثل هذا. دع الحياة وابدأ الموت. ففي فوائد الموت ما يخلّصك من آلام الحياة. حياة، الانتظار فيها مثل قدح من القهوة الكثيفة قبل النوم، أي ليل طويل هذا الذي تسميه حياة؟ مملةٌ هي الحياة إن لم تكن لك حياة خاصة في الحياة العامة. الكتابة مثلاً، الفن مثلاً. المعرفة كأنك تعيش أبداً. محاولة قتل الموت في كيانه.
7
لا تتأخرْ عنه عندما يأتيك، فهو أمرٌ لا يتكرر. يقسو عليك عندما يسألك مرتين. لا تخفْ. لا شجاعة فيه. ليس ثمة ألمٌ في الموت. الألم في غيرك، في الآخرين الذين يفتقدونك أول الأمر، لفرط المباغتة. لكنه (لكن) سرعان ما يهدأ. فما إن يدور التقويم حتى يعجز النسيان عن تذكرك.
8
لا تجعله بطيئاً بالعجز في الطريق إليه. ذلك هو الموت الأول، العجز يجعل طريق الموت موتاً مضاعفاً.
موتٌ بطيء يتطلّب الانتباه كلَّه، فسوف تفقد في بطئه حواسّك نتفةً بعد نتفة. ليت الموت يحدث للمرء بالسرعة التي ولد فيها. غير أن الموت أكثر عصفاً من الولادة. جميع الولادات متشابهة، ولا يشبه الموتُ غيرَهُ أبداً. كل موتٍ له طبيعته وشكله ودلالاته، ليس للموت ميزة لصاحبه لحظة ذلك، وخصوصاً بعده. المسافة والظلام والصمت نفسها.
9
عندما مات، قال لأصحابه أنه كان مغادراً على أية حال، لولا المواصلات. أوصى جيرانه برعاية زرعة البيت وقطّته الوحيدة بعده. أغلقَ الباب وترك المفتاح عند الحافّة لمن يأتي في غيابه.
10
لم يمت إلا بعد إنهاء مسوّدة كتابه الأخير. لم يكتب نهاية لروايته، فعلَ النهاية بنفسه. حتى أن ناشر كتبه اعتبر ذلك تصرفاً مجنوناً يتوجب تسجيله. لم يمت، قال إنه سيغيب بعض الوقت، المشكلة أن الموت طويل، بعكس الحياة القصيرة.
11
لا تمتْ قبل برلين
أو، لا تمت.
كلما جاءك الموت غيّر عناوين بيتك
واسكنْ قريباً من الماء
كي يغرق الموت
عند العبور اليك.
لا تمتْ.
لا تسمع الموتَ.
أجّلْ مواعيده
كي تنال النياشين في بواقي الحياة
حياة لك الآن أقصر من قصةٍ
وأقلّ قليلاً من الأبجدية بعد الكلام.
لا تمتْ،
لدينا لك الآن منتخبٌ
من نبيذ الحياة القصيرة
قصة للذين انتهى الانتظار بهم
بما يشبه الانتحار
سأماً.
لا تمتْ.
لا تمتْ قبل برلين
كي لا تموت.
لبرلين،
لليل فيها،
لما لا يرى في المرايا
لم يعرف الموت فيها طريقاً ولا موعداً
لا تمت قبل برلين،
ولا تمت بعدها.
٭ شاعر بحريني