هل ثمة موجة ثالثة من الربيع العربي، كما يتوقع الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي، الذي يعتبر أيضاً من المفكرين العرب، الذين انشغلوا على مدى عقود في قضايا الديمقراطية والإصلاح؟
قبل الإجابة عن السؤال يجب التعامل مع مجموعة من نماذج الثورات، ومحاولات تغيير الوضع القائم، التي شهدها العالم خلال تاريخه الحديث، ابتداء من الثورة الفرنسية، فالجماهير التي عصفت بسجن الباستيل رمز الاستبداد والطغيان لملوك أسرة البوربون، لم تكن تمتلك أدنى فكرة حول شكل العالم في صبيحة اليوم الأول بعد التخلص من الملك لويس السادس عشر، ولا كانت تعرف الطريق الذي يجب أن تتخطاه، وهذه نقطة جوهرية في عملية الثورة ذاتها، فالثورة تعني وصول الاستياء الشعبي من السلطة إلى الكتلة الحرجة، وانفجار الأوضاع بشكل عام، ولكنها لا تقدم بالضرورة بديلاً، وحتى في الحالات التي كان البديل فيها واضحاً، مثل الثورة البلشفية في روسيا القيصرية، فإن النظام الجديد لم يلبث أن وجد نفسه أمام تحديات هائلة جعلته يجترح نسخته الخاصة من الشيوعية ليتعامل مع الواقع الروسي.
وهذه كانت مشكلة الثورة المصرية في ميدان التحرير، التي يمكن اعتبارها اللحظة الأكثر بروزاً ومركزية في موجة الربيع العربي الأولى، التي شملت تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا، مع ارتدادات في أكثر من بلد عربي آخر، فالثورة كانت تعلن وصول نظام حسني مبارك، والأنظمة المشابهة إلى نهايتها الحتمية، ولكنها لم تقدم بديلاً، وعلى الرغم من نداءات بعض الرؤوس التي ظهرت أثناء أحداث الثورة، ببقاء الثوار في مواقعهم لحين الوصول إلى تسوية كاملة للوضع، إلا أن هذه الدعوات ذهبت سدى، ففي الحقيقة كان هدف الثوار هو رحيل حسني مبارك، وربما تعرضوا لخديعة كبرى، أو صفقة غير معلنة، وعلى درجة عالية من الذكاء، حددت سقف الثورة برحيل مبارك، وتمكنت الدولة العميقة في مصر من هندسة الوضع بشكل عام، وصولاً إلى الهتاف المزلزل: «مش ح نمشي هو يمشي» وعند رحيله كانت الثورة انتهت فعلياً، وتحولت إلى لعبة بين الدولة العميقة وأكثر المنافسين السياسيين جاهزية مع تنظيم الإخوان المسلمين.
الثورة تعني وصول الاستياء الشعبي من السلطة إلى الكتلة الحرجة، وانفجار الأوضاع بشكل عام، ولكنها لا تقدم بالضرورة بديلاً
هذه طبيعة الثورات، ففرنسا دخلت في صراعات مشابهة، وبعد عصر الإرهاب الذي تزعمه روبسبير، وتحول المقصلة وقطع الرؤوس إلى مشهد يومي، أتى عصر نابليون، وهو الأمر الذي جعل الشعب الفرنسي يطالب بعودة نظام ملكي مستقر، وبالفعل عادت الأمور إلى ظروف مشابهة، لما كانت عليه قبل الثورة، نعم فالثورة الفرنسية في إطار حدثها الضيق، كانت ثورة فاشلة بكل المقاييس، أما في امتدادها التاريخي فهي ثورة غيرت شكل العالم، ولكن ذلك استغرق مخاضاً يزيد عن قرن من الزمن.
لا موجة ثانية ولا ثالثة من الربيع العربي، لأننا نعيش في الموجة الأولى نفسها، وما نعيشه هو صراع سيستمر طويلاً بين أنصار الوضع السائد وحراسه والمستفيدين منه من طبقات حاكمة ونخب اقتصادية، وشعوب وجدت نفسها تتحول إلى مجرد أرقام إحصائية وتجرّد من إنسانيتها، وتتحول إلى مجرد جزء من ديكور الدولة، والطبيعي أن تشهد هذه الحالة تقلبات كثيرة، فتأخذ الشراسة العصر القديم لتدفعه للتقدم بثقله السلطوي والمالي، لتقييد مطالب التغيير، وأحياناً يميل إلى المهادنة فيغدق بشيء من المكتسبات الصغيرة للجماهير، التي بدورها تميل إلى المهادنة أحياناً لتعاين ما جنته وما خسرته، وأحياناً تستيقظ على واقع الخديعة فتتقدم للاحتجاج من خبرتها في الخروج للميادين.
إعلان وفاة الربيع العربي مبكراً لم تكن على شيء من الحكمة أو الوعي، واعتبار الربيع العربي، مجرد ثورة ممتدة ومتشابهة أيضاً يفتقر للحصافة، ففي الواقع هو اضطراب عارم أدى إلى خلخلة النظم القائمة، ولكن لكل دولة ربيعها الخاص، وحساباتها الخاصة، وعليها أن تجترح طريقها الذي لا يشبه أي طريق آخر. الثورة الفرنسية من جديد بوصفها الربيع الأوروبي المبكر، أدت إلى زلزال سياسي في مختلف ممالك أوروبا، ولكن بعضها استطاعت أن تجد حلولها الخاصة، وأن تتجنب العنف، من خلال إصلاحات سياسية واسعة وتدريجية، وبعضها تورط في الحرب الأهلية، فلكل دولة مزاجها وظروفها، ولكن ما يؤشر إلى اللجوء إلى العنف، ويضعه احتمالاً قائماً ومسلطاً باستمرار، هو مدى مكابرة النظام السائد والمسيطر، ورفضه الاعتراف بفشله، والمشكلة تتمثل لدينا في هذه النوعية من الأنظمة التي تقودها جملة من الأشخاص غير المؤهلين وغير أصحاب الخبرة، مثل الطغمة العسكرية، وبعض الورثة غير الجديرين، فهم لا يمتلكون أصلاً الحساسية لإدراك لعبة السياسة في معناها التاريخي، وكل ما يعنيهم هو مكتسبات شخصية أو فئوية ضيقة. لا يمكن أن تنتهي الاضطرابات في العالم العربي إلا بتحقيق أهداف التحول التاريخي، ولا يمكن أن يعتبر الربيع ناجزاً أو منتهياً إلا بعد عقود من الزمن، ولا يمكن أيضاً الحكم عليه، فهو تفاعل في التاريخ لا يخضع للنظريات السائدة لدينا، وكل ما نفعله هو إمكانية القياس والاستفادة، أما ما يحدث لدينا في المنطقة فسينتج نظرياته الخاصة.
أختلف مع المرزوقي في وضع مراحل للربيع العربي تحول دون فهمه على حقيقته، وأتفق بأن موجة جديدة من الاضطرابات لن تلبث أن تنطلق في المنطقة، لأن ذلك في ظل الوضع الراهن يبدو بدهية لا مناص عنها، وأن تأخذ الناس قريباً أو بعيداً ـ ولو بصورة مؤقتة ـ تجاه تغييرهم المنشود.
كاتب أردني
الخطا الاساسي كان بتعميم مقولة الربيع العربي فكل بلد له خصوصيته وما حدث في تونس كان يختلف تماما عن ما حدث في مصر واليمن وسوريا وليبيا فكل شعب له خصوصية معينة لا تنطبق مع غيره ففي مصر كان هناك الاخوان وهناك خصومهم في الساحة نفسها وكل يريد مصر على شاكلته وما حدث في ليبيا كان القذافي كشخص هو المقصود وعائلته ونفس الحال ينطبق على سوريا ولكن على مستوى الطائفة العلوية وحتى في العراق ما يحدث حاليا من انتفاضة في الجنوب لم يتم انضمام جميع العراقيين اليها لاسباب طائفية او عرقية
السيد سامح المحاريق ، في النصف الأول من مقالك أنت بدأت بالكلام المتحمس عن التشابه بين قيام الثورات في التاريخ العالمي الحديث ، من الثورة الفرنسية إلى الثورة الروسية (البلشفية) إلى ثورات الربيع العربي ؛ ثم تحولت فجأة في بداية النصف الثاني من مقالك إلى الكلام عن الاختلاف حتى بين ثورات الربيع العربي نفسها ، قائلا بالحرف الواحد بأن (اعتبار الربيع العربي، مجرد ثورة ممتدة ومتشابهة أيضاً يفتقر للحصافة، ففي الواقع هو اضطراب عارم أدى إلى خلخلة النظم القائمة، ولكن لكل دولة ربيعها الخاص) ؛ ألا ترى معي بأن مقالك يعاني في جوهره من التناقض الذاتي حتى لو زعمت بأنك تختلف في رأيك عن رأي السيد منصف المرزوقي ؟؟!