أسس مصطفى سليمان المولود عام 1984، لأب مهاجر سوري وأم بريطانية، «خط الشبان المسلمين»، خلال مراهقته، وانتقل بعدها للعمل في مكتب حقوق الإنسان لدى عمدة لندن الأسبق كين ليفنغستون، وفي عمر السادسة والعشرين قام بخطوة تاريخية: تأسيس «ديبمايند» شركة الذكاء الاصطناعي الشهيرة مع زميل للدراسة الثانوية يدعى ديموس هاسابيس.
بعد أربع سنوات من إنشائها، اشترت شركة غوغل «ديبمايند» بما يعادل 400 مليون دولار، وانطلق سليمان بعد ذلك لتأسيس شركات أخرى للذكاء الاصطناعي وللعمل في غوغل ومايكروسوفت (هو حاليا نائب الرئيس والرئيس التنفيذي لوحدة الذكاء الاصطناعي للتسويق)، وبناء على إنجازاته كرّمته المملكة المتحدة برتبة (قائد).
تحضر انشغالات سليمان، كشخصية مؤسسة في مجال الذكاء الاصطناعي وكمبتكر في قضايا التواصل والاستشارات النفسية وكمشتغل في حقوق الإنسان، في كتابه «الموجة القادمة» الصادر العام الماضي، ولكونه أحد الرواد المسؤولين عن التطوّر الهائل الذي تشهده البشرية في مجال الذكاء الاصطناعي، فعلينا، أن نأخذ تحليلات الكتاب العميقة وتوقعات وتنبؤاته بالمخاطر الهائلة التي يحملها المستقبل، على محمل الجد الشديد.
سرب مسيّرات يطارد «حماس»!
يشبّه سليمان، في مقدمة كتابه، ما يحصل في العالم الآن، في ما يخص تداعيات الذكاء الاصطناعي والبيولوجيا الحيوية، بطوفان أو تسونامي هائل، لا يمكن للبشرية إيقافه، والحقيقة أن ما شهدته الجغرافيا السياسية لمنطقتنا، من أحداث تختلط فيها الحرب الدموية مع آخر منجزات العلوم، وما نراه حاليا، من «تسونامي» عودة دونالد ترامب لرئاسة أمريكا، وما سنراه لاحقا، يقدّم مؤشرات كافية لإقناعنا بخطورة تنبؤاته. نشر سليمان كتابه في أيلول/سبتمبر 2023، أي قبل أسابيع من بدء أحداث غزة، يرد وهو يذكر فيه حدثا جرى في أيار/مايو 2021 حين استخدمت إسرائيل سرب مسيّرات تعمل بالذكاء الاصطناعي في غزة «للعثور على مقاتلي «حماس» وتحديد هويتهم ومهاجمتهم»، والأغلب أن الكتاب لو صدر بعد سنة لوجد أمثلة هائلة موسعة على استخدام الذكاء الاصطناعي في المعارك الجارية، في القطاع، حيث استخدمت إسرائيل عدة أنظمة تعمل بالذكاء الاصطناعي أهمها أنظمة «غوسبل» الذي يحدد المباني التي يعتقد أنها تستخدم من قبل عناصر «حماس»، ونظام «لافندر» الذي يحدد ويرشح ويتتبع الأهداف البشرية، ونظام «أين أبي؟» (Where’s Daddy) الذي يتتبع هؤلاء المستهدفين في منازل عائلاتهم استعدادا لقصفهم.
يرد ذكر إيران أيضا في عدة مواضع من الكتاب، ويستشهد سليمان بحادثة اغتيال محسن فخري زاده، كبير علماء الطاقة النووية في إيران، التي كانت، كما يقول نقلا عن تحقيق لصحيفة «نيويورك تايمز»: «اختبارا لأول مرة لقناص محوسب عالي التقنية مزود بذكاء اصطناعي وعيون متعددة الكاميرات، يعمل عبر الأقمار الاصطناعية وقادرا على إطلاق 600 طلقة في الدقيقة»، مركبا على شاحنة صغيرة متوقفة بشكل استراتيجي، وكانت «نوعا من الأسلحة الآلية التي جمعها عملاء إسرائيليون» حيث أعطى شخص منهم الإذن بتنفيذ الضربة «لكن الذكاء الاصطناعي هو الذي قام بضبط تصويب السلاح تلقائيا. تم إطلاق 15 رصاصة فقط وقتل أحد أكثر الأشخاص البارزين والأكثر حراسة في إيران في أقل من دقيقة»، وهذا الاغتيال، حسب سليمان، كان «نذيرا بما هو مقبل».
بلوغ الروبوتات سن الرشد!
في فصل بعنوان «الموجة الأوسع» يتحدث سليمان عن بعض الأمثلة الرئيسية التي تشكل الموجة الأوسع ومنها، «بلوغ الروبوتات سن الرشد»، وبعد جرارات وحصادات ذاتية القيادة وطائرات مسيرة يمكنها زراعة المحاصيل، وروبوتات الشرطة التي تتخلص من القنابل وتفجر القناصين، ستوجد الروبوتات بشكل متزايد في المطاعم والحانات ودور الرعاية والمدارس (والجيوش)، وستعمل أسراب الروبوت على بناء جسر أو مبنى كبير في دقائق أو ساعات، ومع تعلّم الذكاء الاصطناعي إدارة هذه الآلات، لا تعود هناك حاجة للإشراف البشري حتى. المثال الآخر هو «التفوّق الكمومي» الذي نتجت عنه حواسيب تكمل في ثوان عملية حسابية كانت ستستغرق عشرة آلاف سنة على الكمبيوتر التقليدي، ما سيجعل أمن الحكومات والمصارف وأمن التشفير برمّته في خطر، كما ستصبح الجزيئات الكيميائية أو الحيوية، قابلة للتلاعب بها مثل الشيفرات البرمجية.
بما أن (الحياة + الذكاء) x الطاقة = الحضارة، كما يقول سليمان، وبما أن الطاقة المتجددة ستكون أكبر مصدر منفرد لتوليد الكهرباء بحلول عام 2027 ومع الإمكانيات الأخرى التي تنفتح حاليا من الطاقة الشمسية والاندماج النووي (إطلاق الهيليوم من الهيدروجين) سينعكس هذا تغيرا على طبيعة المجتمعات. مع اتحاد عناصر الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية المتقدمة والحوسبة الكمية والروبوتات (بعد منتصف القرن الحالي حسب تقديره) يقول سليمان، إن على البشرية الاستعداد لاختراقات من قبيل أن تصبح الذرات كتل بناء يمكن التحكم فيها، «حيث يمكن لأي شيء ان يصبح أي شيء بالتلاعب الذري الصحيح». لا نتحدث هنا عن مجرد تعميق وتسريع للتاريخ، بل «قطيعة حادة عنه».
النقاد والديستوبيا الاستبدادية
من سمات للموجة المقبلة التي يشرحها سليمان ما يسميه “التأثير غير المتماثل”، ممثلا على ذلك بحادثة حصلت في الأيام الأولى للحرب الروسية ـ الأوكرانية حين نجحت مجموعة صغيرة من المتطوعين من هواة المسيرات وهندسة البرمجيات والجنود، في إيقاف طابور دبابات ومدفعية ثقيلة وشاحنات بطول أربعين كيلومترا، وهو هجوم بري لم تشهده أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وبذلك خسرت روسيا معركة كييف. خلقت التكنولوجيا الناشئة إعادة توزيع للقوة ودفع الإنترنت هذا إلى ذروة عظمى، حيث أن تغريدة، أو صورة واحدة قد تجوب العالم في دقائق، ويمكن لخوارزمية واحدة أن تساعد شركة ناشئة لتصير شركة ضخمة تمتد على مساحة العالم، و»يمكن لنقطة فشل واحدة أن تتداعى بسرعة حول العالم».
قام علماء يدرسون صناعة الأدوية بعكس إمكانيات العلوم المتقدمة الآنفة الذكر للبحث عن «أدوية قاتلة»، وخلال ست ساعات تم تحديد أكثر من أربعين ألف جزيء بإمكانية سمّية مماثلة لأخطر الأسلحة الكيميائية (مثل نوفيتشوك). «الفرص المتاحة»، كما يقول سليمان، «مزدوجة الاستخدام». الفرص المتاحة أمام البشرية لا يمكن للعقل تخيّل آفاقها، وكما أن هذه «الموجة القادمة» ستفتح إمكانيات لإنتاج تقنيات، قد تنهي أو توقف احتمالات الفناء والفقر والظلم والكوارث المناخية، فإنها يمكن أن تسهم في تفاقم هذه الاحتمالات. يقدم سليمان اقتراحات كثيرة لمحاولة احتواء المخاطر الفظيعة، ويقول إنه «تصارع» مع هذه المسألة لسنوات، ويرى أنه إذا لم يوجد نقد له ولأمثاله «من الداخل والخارج» فقد تكون هناك فرصة أفضل لبناء تكنولوجيا لا تلحق المزيد من الضرر بالدولة القومية و»تكون أقل عرضة للفشل الكارثي، ولا تساعد على زيادة فرص حدوث ديستوبيا استبدادية».
غير أن ما رأيناه في سنة واحدة فقط، يوحي لنا، سواء كنا سكانا في هذه الجغرافيا السياسية المنكوبة، أو في أمريكا، التي تجرّ العالم وراءها، أو في أوروبا المتجهة أكثر فأكثر لتصبح قلعة تصدّ المهاجرين، أن هذه الديستوبيا الاستبدادية هي ما نتجه إليه.
كاتب من أسرة «القدس العربي»