عند الوقوف أمام عراقة محافظة دير الزور، عاصمة الشرق السوري، لا بد للرحال أن تحط عند أسوار الميادين. تلك المدينة التاريخية التي يظهر من اسمها كم عاصرت من معارك وحقب تاريخية، وتنوع في الجهات التي سيطرت عليها ما بين مرحلة وأخرى.
وعلى الرغم من عدم العثور على الدافع الواضح لتسمية الميادين بهذا الاسم، إلا أن غالبية المراجع التاريخية اتفقت على أن التسمية جاءت من ميادين القتال، حيث شهدت المدينة العديد من المعارك خلال العصور السابقة في ساحاتها، ولما تحمله قلعة الرحبة الواقعة في جنوبها من أهمية جغرافية وعسكرية وكذلك اقتصادية.
جغرافيا وتاريخ
تقع مدينة الميادين، على الضفة اليمنى لنهر الفرات وتبعد عن مدينة دير الزور 40 كم باتجاه الشرق، حيث تتموضع فوق تل أثري كان اسمه الرحبة، أنشأها في الأصل مالك بن طوق التغلبي في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد، وكانت تعرف برحبة مالك بن طوق، كذلك بالرحبة.
في عام 1157م تعرّضت المدينة وفق تقرير لـ «نور سوريا» لزلزال دفع السكان للإقامة فوق الحافة الصخرية حيث توجد قلعة الرحبة، لتبنى المدينة الحالية على أنقاض تل العلوة الأثري.
في حين أن الحفريات كشفت عن منشآت مبنية بالحجارة والآجر، وعلى بقايا السور الذي كان يحيطها، وعلى لقى أثرية من العصر العباسي، ومشيّدات من العصرين الأيوبي والمملوكي.
فقلعة الرحبة الواقعة جنوبي مدينة الميادين، يعود تاريخها وفق ما قاله الإعلامي محمد الحمادي لـ«لقدس العربي» وهو ابن المدينة، لما قبل الميلاد، حيث تعاقبت عدة قوى في السيطرة عليها من العهد الآرامي فالآشوري ثم الإسلامي أخيراً.
حيث عين نور الدين الرحبة على الفرات وحمص على العاصي لأسد الدين شيركوه بن أحمد بن شادي الدويني عم صلاح الدين الأيوبي عام 559هـ – 1164 م.
وقد عهد صلاح الدين بحكم الرحبة إلى قائد يدعى يوسف بن الملاح، بحسب أرشيف موقع «عريق» وابتنى شيركوه الرحبة الجديدة على بعد ثلاثة أميال من رحبة طوق بن مالك.
وقد ظلت الرحبة الجديدة في حكم أسرة شيركوه قرنا من الزمان، وغدت في عهد هذه الأسرة محطة مهمة للقوافل بين الشام والعراق. ونصب ببيبرس واليًا على الرحبة عام 663هـ – 1264 م.
الأمير الأول والصرح العظيم
في الجهة الجنوبية من مدينة الميادين، تتواجد قلعة تاريخية، تعرف باسم رحبة مالك بن طوق، ولأن سكان المنطقة عزّ عليهم أن يُنسى ذكر الرحبة وذكر مالك بن طوق، أطلقوا على قلعة آشورية قديمة فيها اسم رحبة مالك بن طوق، وهو أميرها العربي الأول، وشاع الاسمان مقترنان، إلى يومنا.
أما رحبة مالك بن طوق، بحسب الباحث رشيد حوراني، فهي المدينة التي قامت على أنقاض بيت رحوب، الإمارة الآرامية القوية المزدهرة بسبب خصوبة أرضها وموقعها الاستراتيجي، التي سيطر عليها الآشوريون مطلع الألف الأول قبل الميلاد، وأقاموا قربها قلعةً يحيط بها خندق.
إلا أن المدينة تهدمت جراء غزوات الإسكندر المقدوني في القرن الرابع قبل الميلاد، وبقيت كذلك حتى عيّنَ الخليفة العباسي المأمون مالكَ بن طوق العتابي التغلبي والياً على الجزيرة الفراتية، فأعجبه موقعها على الطريق الواصل بين العراق والشام، المشرفِ على بادية الشام وبادية السماوة.
وكذلك على بادية الجزيرة الفراتية، حيث كانت منازل بني تغلب آن ذاك، وقام بإعادة إعمار المدينة وترميم وتدعيم قلعتها، وعَرَفَت منذ عهده ازدهاراً كبيراً، وكتبَ الشعراء فيه وفيها القصائد، ومنهم أبو تمام وكلثوم بن عمر التغلبي.
إلا أن عهد الازدهار هذا، انتهي بحروب ومعارك متعددة، وانتقلت السيطرة عليها بين عدة إمارات وسلطنات في عهود تصدع الخلافة العباسية، فحكمها تباعاً الحمدانيون والقرامطة والفاطميون والزنكيون، والأيوبيون، والسلاجقة، والمماليك.
الحضور العثماني
الميادين، خضعت كسائر بلاد الشام للسلطنة العثمانية، وفي كل تلك المراحل كانت السهول الخصبة المحيطة بها محطاً للجيوش ومعسكراتٍ للمقاتلين، وفي كثيرٍ منها كان السكان يعتصمون في القلعة القديمة المجاورة طلباً للأمن.
منذ أن سيطر العثمانيون على وادي الفرات، أدركوا أهمية موقع الرحبة فعينوا وفق الباحث، حاميات عسكرية بمراسيم سلطانية، واعتصم سكانها في القلعة عقوداً.
لكنهم بدأوا منذ منتصف القرن التاسع عشر بالنزول تدريجياً بسبب استتباب الأمن، ولأنها ضاقت عليهم وأصبح صعباً تأمين مياه كافية للسكان فيها.
كما أحدث العثمانيون سنجق دير الزور عام 1868 وأُتبعت الرحبة وقلعتها لقضاء العشارة التابع له، وكانت العشارة وقتها أكبر من الرحبة، وسكانها أكثر عدداً ويسكنون في بيوت خلافاً لأبناء الرحبة الذين يقيم معظمهم في قلعتها.
تنظيم إداري
شجّعَ التنظيم العثماني الإداري المزيد من سكان الرحبة على مغادرة القلعة، وبناء المساكن في موقع المدينة القديم، فاستخدموا حجارة الأبنية القديمة المتداعية وحجارة السور حتى ضاعت معالم المدينة القديمة تقريباً.
كما أنهم استخدموا بحسب تقرير مفصل لموقع «الجمهورية» جزءاً من حجارة القلعة نفسها، وذلك لصعوبة الحصول على أحجارٍ مناسبة للبناء في تلك المنطقة، في حين أطلق العرب على موقع الرحبة القديمة شمال القلعة اسم المواذين، بسبب المآذن الشاهقة الباقية من عصر عمرانها وازدهارها.
ثم انقلبت الواو ياءً، وحملت هذا الاسم عندما أُعيد إعمارها وسكنها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولاحقاً دُونت في سجلات الدولة السورية الناشئة باسم الميادين لصعوبة لفظ الذال، إلا أن الديريين كانوا لا يزالون ينطقون اسمها بالذال.
وكبرت المياذين واتسعت، وقصدها أبناء عشائر أخرى من سائر حواضر حوض الفرات في العراق والشام، وسكنوا فيها إلى جانب أبنائها المؤسسين النازلين من القلعة، والمعروفين حتى اليوم باسم الكلاعيين باللهجة المحلية، أي القلعيين، النازلين من القلعة.
كسر حاجز الخوف
كسرت الميادين، جدار الخوف والصمت وفق روايات من أبناء المدينة في يوم الخميس الموافق للرابع والعشرين من آذار/مارس عام 2011 وقاموا بمظاهرة في سوق المدينة المقبي القديم، وذلك لأسباب عديدة أهمها التهميش الاجتماعي والاقتصادي.
في حين لعب النظام السوري على الحالة العشائرية وتغذيتها لاستمرار حكمه، والابتعاد عن المواطنة، حيث يقرب منه العشائر الكبيرة، وبالتالي ينعدم أي دور للصغيرة منها.
كما أن البدء باستثمار حقل العمر النفطي أواسط الثمانينيات في القرن الماضي الذي يقع على بعد نحو 15 كم شمال شرق المدينة، عمل على تلويث البيئة ولم يكن له أي عائد اقتصادي على المدينة وأبناءها.
قوى عسكرية
رئيس تحرير صحيفة «الشرق نيوز» فراس علاوي، قال لـ «القدس العربي»: «مدينة الميادين شاركت في الثورة السورية منذ بدايتها، ومع تراكم السنوات، تناوبت عدة جهات عسكرية محلية وإقليمية وكذلك دولية في السيطرة عليها.
ففي الوقت الراهن، تخضع المدينة لسيطرة قوات النظام السوري والميليشيات الإيرانية، كما تتواجد فيها قوات وخبراء من الجيش الروسي. قبل ذلك وقعت الميادين تحت سيطرة تنظيم الدولة داعش، بعد أن كانت تحت نفوذ تنظيم جبهة النصرة، في حين أن الجيش السوري الحر، هو أول الجهات التي حررت المدينة من قبضة جيش الأسد بعد معركة شهيرة خاضها الحر في الشهر الأخير من عام 2012».
المدينة وفق علاوي شاركت بقوة في أحداث الثورة السورية، سواء على الصعيد السلمي أو عسكريا، وقبل الثورة، كانت الميادين مشهورة في محافظة دير الزور بقوتها الاقتصادية والتجارية، بالإضافة لثراء أهلها.
امتيازات لوجستية
تنبع أهميتها العسكرية من توسطها للطريق بين مدينة دير الزور ومدينة البوكمال، حيث يعتبر موقعها، وفق ما قاله الباحث رشيد حوراني لـ «القدس العربي» من أسباب تنازع السيطرة عليها طويلاً. كما أن جسر الميادين الموجود فيها، والذي يصل ضفتي نهر الفرات من الميادين إلى بلدة ذيبان المقابلة يعطي امتيازات لوجستية وعسكرية مهمة.
عنف الأسد وطمع إيراني
يتحمل النظام السوري مسؤولية الدمار الذي حل بالمدينة في الدرجة الأولى، فهو من واجه المظاهرات السلمية بالعنف المفرط، ويشاركه المسؤولية إيران وميليشياتها التي لا تزال تحاول تغيير طابع المدينة وهويتها من خلال نشرها للتشيع، وسيطرتها عليها.
حيث فتحت طهران، مكتبا لنشر التشيع فيها، كما فتحت معهد «النور الساطع» في مدينة الميادين لدعوة الناس للتشيّع، مقابل المال.
وتعمل على إرسال أبناء مدينة دير الزور ومنهم أبناء الميادين لاتباع دورات عسكرية ودينية وتعليمهم اللغة الفارسية.
كما افتتحت المركز الثقافي الإيراني، الواقع بالقرب من جامع الفتح مدينة الميادين، والذي تأسس منتصف العام 2018 بإشراف من الحرس الثوري للترويج لمشروع إيران في المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية لطريق (طهران- بغداد- بيروت- دمشق). كما أنشأت ضمن ما يمكن تسميته استراتيجية المزارات «مزار عين علي» في المدينة ونشرت حوله مقرات ميليشياتها.
إهمال وقصف وتنقيب
قلعة الرحبة لم تحظ خلال سنوات حكم النظام السوري عليها بأي اهتمام، على الرغم من أهميتها التاريخية العريقة، واقتصرت اهتمامات دمشق ببعض البعثات الأجنبية التي أخذت تنقب في القلعة ومحيطها ما بين فينة وأخرى.
وفي عهد سيطرة الجيش السوري الحر على المدينة، واشتداد المعارك مع قوات النظام السوري، قامت قوات الأخير، والتي كانت تتخذ من مستودعات الكهرباء القريبة من قلعة الرحبة مسافة 4 كم مقار عسكرية لها، باستهداف القلعة بقذائف المدفعية والهاون، ما ألحق بأسوارها أضراراً كبيرة بداية منذ شهر الشهر السابع من عام 2012 وحتى انسحاب المدفعية في آواخر ذات العام.
وإبان احتلال المدينة من قبل تنظيم «الدولة» بحسب ما أورده الإعلامي السوري محمد حمادي في تصريحات لـ«القدس العربي» بدأ بعمليات التنقيب والحفر داخل وبمحيط القلعة بحثا عن الآثار، كون التنظيم كان ينقب بعدد من المناطق شرقي دير الزور بحثاً عن الآثار كمصدر تمويل.
قبيل خروج التنظيم من المدينة أثناء الحملة العسكرية الأخيرة للنظام السوري في نهاية عام 2017 بعدة أشهر، كان التنظيم يقوم بحفر أنفاق تحت مدينة الميادين وصولاً لقلعة الرحبة.
ولكن تقدم قوات النظام السوري مدعومة بالطيران الروسي والميليشيات الإيرانية أوقفت عمليات الحفر، حيث كانت غالبية من يمر من الأهالي بالقرب من القلعة يسمعون أصوات آلات الحفر داخل القلعة.
في الوقت الراهن، يعاني الأهالي المتواجدين داخل المدينة ومحيطها من أوضاع إنسانية صعبة للغاية، جراء تردي الأوضاع الاقتصادية في عموم سوريا، في حين تقوم الميليشيات الإيرانية بالتنقيب داخل القلعة، كما تستخدمها كمستودعات للأسلحة والصواريخ.
إحصائيات مؤلمة
ففي إحصائيات حصلت عليها «القدس العربي» لعدد الضحايا الذين قدمتهم مدينة الميادين خلال عقد من عمر الثورة السورية، أظهرت الأرقام، توثيق مقتل 370 مدنيا من أبناء المدينة، في حين أن عدد المعتقلين في سجون النظام السوري بلغ بحسب ما أورده محمد الحمادي لـ القدس العربي» بما يقارب 130 معتقلا.
فيما بلغت أعداد المهجرين خلال الحملة العسكرية الأخيرة للنظام السوري نهاية عام 2017 ما يقارب 70 ألف نسمة توزعوا ما بين مناطق سيطرة قوات سورية الديمقراطية «قسد» شمال وشرق سوريا، وبين مناطق سيطرة المعارضة «الجيش الوطني السوري» شمال وغرب سوريا وفي دول الشتات من تركيا إلى أوروبا.
عبث إيراني
في أواخر العام الماضي، نشر موقع تلفزيون سوريا، تقريرا تحدث فيه نقلا عن مصادر خاصة، عن قيام الميليشيات الإيرانية التي تنشط حاليا في مدينة الميادين ومحيطها بتغيير أسماء شوارع المدينة، إذ قامت تلك الميليشيات بتغيير اسم شارع أنس بن مالك إلى شارع الإمام الخميني.
كما غيرت اسم شارع الجيش إلى شارع الإمام العباس نسبة إلى ميليشيا لواء العباس التابع لها والموجود في المدينة، في حين عمد الحرس الثوري الإيراني بأوامر من أحد قادته حج عسكر بتغيير اسم شارع أبو غروب إلى شارع الشهيد قاسم سليماني، وشارع ساقية الري إلى شارع فاطميون.
كما نشرت الميليشيات الإيرانية وفق ذات المصدر، أعلامها السوداء والحمراء، حاملة اسم «يا حسين» «يا زينب» «يا فاطمة» إضافة إلى صور قتلى الميليشيات الإيرانية كقاسم سليماني على مآذن المساجد ومفترق الطرق الرئيسية والأماكن الأساسية.
نخب ومفكرون
بُنيت أول مدرسة للتعليم الابتدائي في الميادين عام 1905 ووصل عدد المدارس فيها أواخر القرن العشرين إلى خمس مدارس ابتدائية، وثانويتين واحدة للذكور وأخرى للإناث، ومدرسة اعدادية واحدة للذكور وثانوية صناعية.
في حين أن أقدم شهادة جامعية فيها كانت في الحقوق حصل عليها أحمد مصطفى الوكاع عام 1946 ميلادي، وفق الوثائقيات المكتوبة لموقع التاريخ السوري المعاصر، فيما تعد السيدة لبيبة حسني الدخيل من أوائل الفتيات اللواتي دخلن حقل التعليم في محافظة دير الزور.
كما برز من أبناء مدينة الميادين عدد من رجال الفكر، منهم: محمود مشوح، الشاعر عبد الجبار الرحبي، محمود الرحبي، صبحي النايف، جمعة مطر، عبود السلمان، عفيف ساير جمال حمادي، حسين دحيان، أما الكتاب مثل: وليد مشوح، عبد الغني الرحبي، هيثم حقي ومأمون ضويحي.
زارها الرئيس القوتلي
يعتبر الرئيس شكري القوتلي، أول رئيس سوري يزور مدن الجزيرة والفرات بعد استقلال سوريا، حيث توجه توجه الرئيس في صباح يوم السبت الثالث من تشرين الأول/اكتوبر عام 1945 إلى قضاء الميادين.
واشترك الأهالي جميعا في استقباله استقبالا حافلاً، وألقيت الخطب، فيما طلب الرئيس القوتلي من أبناء المدينة، أن يكونوا متضامنين تحت لواء الوطن والعلم السوري. بحسب معلومات نشرها موقع «التاريخ السوري المعاصر» عن الزيارة.