تونس ـ «القدس العربي»: تعرض قانون المالية لسنة 2024 في تونس إلى انتقادات واسعة بشأن خطوطه العريضة التي بقيت وفية للتوجهات العامة التي عرفتها البلاد في السنوات الأخيرة فيما يتعلق بميزانيتها، وهي توجهات لم تحقق خروج البلاد من عنق الزجاجة ولم تمكنها من تجاوز أزمتها الاقتصادية والإجتماعية الخانقة. حتى أن البعض اعتبر أن هذا القانون هو نسخة طبق الأصل من القوانين المالية لمرحلة ما بعد سنة 2011 والتي تميزت بغياب نفقات التنمية مقابل الحرص على تجميع أكبر قدر ممكن من المداخيل من خلال الجباية والتداين الداخلي والخارجي.
كتلة الأجور
كما تميز قانون المالية برصد نصيب الأسد في الميزانية لسداد ديون العشرية الماضية، التي تميزت بكثرة الاقتراض الذي يدفع ثمنه التونسيون اليوم باهضا، وذهب نصيب هام من النفقات إلى كتلة الأجور أو الرواتب وذلك بعد إغراق الوظيفة العمومية بانتدابات لا تحتاجها الإدارة. وتبلغ نفقات الأجور وفقا لقانون المالية قرابة 23.7 مليار دينار أي ما يناهز 13.5 في المئة من الناتج المحلي الخام و 39.6 في المئة من نفقات ميزانية الدولة مع تراجع طفيف مقارنة ببيانات 2023.
أما باقي النفقات فهي ذاهبة أساسا إلى توريد المحروقات بعد تراجع الإنتاج المحلي منها بسبب نفاد مخزون بعض الآبار وتراجع إنتاج البعض الآخر وتوقف نشاط التنقيب منذ فترة وعدم دخول بعض الآبار المكتشفة قبيل توقف نشاط التنقيب حيز الاستغلال الفعلي. كما تأخر إنجاز مشاريع الطاقات البديلة التي كانت مبرمجة في بلد تحرق فيه الشمس الكائنات على مدار العام ولا يقع استغلالها بالشكل الأمثل، وذلك بفعل البيروقراطية النقابية بالأساس بالإضافة إلى أسباب أخرى.
شبح البطالة
وبالتالي لم يتضمن قانون المالية الجديد نفقات تنموية معتبرة ولا هو رصد مبالغ هامة وحقيقية لانتدابات جديدة للوظيفة العمومية للحد من البطالة والتخفيف من الاحتقان الاجتماعي الذي بلغ ذروته مع تدهور مستوى معيشة التونسي بتدهور قدرته الشرائية. فالانتدابات الجديدة أو الالحاق في الوظيفة العمومية ستقتصر فقط على 13 ألفا و586 خطة مع إدماج 6 آلاف شخص في إطار قسط جديد لتسوية وضعية ما يسمى بأعوان الحضائر البالغ عددهم أكثر من 656 ألف عون.
وتتوزع الانتدابات الجديدة، حسب قانون المالية على 2372 خطة لوزارة التربية و3094 خطة لوزارة الدفاع و1998 خطة لوزارة الداخلية و820 خطة لخريجي مدارس التكوين و3 آلاف خطة لوزارة الصحة. بينما لم تحظ بقية الوزارات رغم أهميتها بنصيب معتبر ومهم من الانتدابات في الوظيفة العمومية وهو ما يهدد الإدارة التونسية العريقة بالتهرم وعدم التجدد بالطاقات الشبابية خاصة مع الترفيع في سن التقاعد.
مضاعفة الاقتراض
من المفروض أن البنوك العمومية والخاصة هي التي تقدم القروض للشبان لبعث المشاريع التنموية التي تشغل صاحب المشروع وآخرين، لكن الدولة تحولت في السنوات القليلة الأخيرة إلى منافس لشبابها على أموال البنوك المحلية. فهي اليوم أهم المقترضين من المؤسسات المالية المحلية وذلك في غياب المقرضين الخارجيين بعد تلكؤ صندوق النقد الدولي في منح القرض الذي وعد به على مستوى خبرائه.
لقد طرحت الحكومة مؤخرا اكتتابا وطنيا هو الرابع هذا العام لجمع 700 مليون دينار لتمويل ميزانية العام الحالي التي تشكو تقصا في السيولة وذلك بسبب العجز في تأمين القروض الخارجية. وكانت الحكومة قد جمعت من الاكتتابات الثلاثة السابقة هذه السنة ما يزيد على 800 مليون دولار من البنوك التونسية وذلك على حساب المشاريع التنموية التي من المفروض أن تساهم البنوك المحلية في تمويلها للدفع بعجلة الاقتصاد.
ويرى البعض أن الاقتراض الداخلي رغم خطورته باعتباره يهدد بالتسبب في شح كبير في السيولة ويغرق القطاع المصرفي في أزمة خانقة إلا أنه يجنب الدولة والتونسيين الإذلال الذي تمارسه الصناديق المالية وبعض الدول بما في ذلك القريبة. فالبنوك التونسية حققت خلال السنوات الماضية، وتحقق اليوم أرباحا هامة من أموال التونسيين المودعة لديها واستثمارها، وبالتالي يرى البعض أن عليها أن تساعد الاقتصاد المنهك والبلد الذي وفر لها كل ممهدات النجاح.
زيادة التداين
ورغم مماطلة صندوق النقد الدولي في منح تونس القرض الذي وافق عليه خبراء هذه المؤسسة المالية الدولية، إلا أن من أنجزوا ميزانية سنة 2024 رفعوا من حاجة البلد إلى القروض الخارجية بعد الترفيع في الميزانية. فالمبلغ المطلوب اقتراضه لسنة 2024 هو 16.4 مليار دينار بعد أن كان 10.5 مليارات دينار سنة 2023 وهو ما يطرح عديد نقاط الاستفهام في ظل هذا الوضع الاستثنائي الذي يمر به البلد والذي يبدو معه بحاجة إلى الضغط على النفقات والتقليل من التداين أو التداين من أجل بعث المشاريع التنموية.
لقد تضمنت ميزانية سنة 2024 عموما حاجة الدولة إلى اقتراض 28 مليار دينار من بينها 16.4 مليار دينار من الخارج سيذهب 14.4 مليار دينار منها لدعم الميزانية. ولعل عدم منح صندوق النقد الدولي للقرض المشار إليه إلى اليوم هو الذي يساهم في فقدان الثقة في تونس من باقي المانحين وفي تدهور تصنيفها الإئتماني السيادي فقد خفضت وكالة موديز التصنيف السيادي لتونس من caa1 إلى caa2 مع آفاق سلبية.
كما قامت وكالة فيتش رايتينغ بتخفيض تصنيف تونس الائتماني إلى –ccc وذلك بسبب نقص التمويل الخارجي. وكانت هذه الوكالة أخطأت سابقا بحق تونس وخفضت تصنيفها متوقعة عدم قدرتها على سداد أقساط ديونها لكن تونس كذبت التوقعات وسددت في الآجال. ومثلها فعلت وكالة التصنيف الياباني واستثمار المعلومات التي خفضت تصنيف تونس من ب إلى ب سلبي مع الحفاظ على النظرة المستقبلية السلبية وذلك أيضا بسبب عدم القدرة على الوصول إلى المؤسسات المالية الدولية.
ضعف التنمية
ترغب الحكومة التونسية بتخصيص مبلغ 10.3 مليار دينار سنة 2024 على شكل نفقات مخصصة للتنمية وهو مبلغ زهيد جدا لبلد قضى أكثر من عقد من الزمان لم ينجز فيه أي مشروع تنموي ذا بال وتم إهمال البنى التحتية المنجزة خلال فترة الاستبداد. وواقعيا تتضمن الأموال المرصودة للمشاريع التنموية، 5 مليار دينار لا غير، أما البقية فهي بعنوان نفقات استثمار وقدرها 5.2 مليار دينار ونفقات عمليات مالية وقدرها 67 مليون دينار.
ويرى البعض أنه كان على تونس عوض سداد أقساط قروضها في الآجال، من مداخيل السياحة وتحويلات المهاجرين التونسيين بالخارج، أن تطلب من دائنيها إعادة جدولة هذه الديون أو تحويلاها إلى استثمارات. وبالتالي تذهب مداخيل السياحة وتحويلات المهاجرين ومداخيل تصدير الفوسفات والمنتوجات الصناعية والفلاحية إلى إنجاز المشاريع الكبرى والبنى التحتية وخلق الثروة ومواطن الشغل وذلك في ظل غياب البنوك التونسية التي تُستنزف من قبل الدولة.