الناسك الذي سبق الجميع إلى أبواب إبليس

أي منا لا يعلم أن الحديث في الدين هو أكثر الأحاديث المكتوبة خطرا على صاحبها. ليس فقط لأن الحديث في الدين لا يمكن أن يكون موضوعيا بدرجة كافية للخروج باستنتاجات ثابتة، ولا يكفي أن هذا ‘التزندق’ – في نظر المتشددين- مستفز لفئة مسعورة تستسهل العنف والإقصاء، ولا ينصح عاقل بإيقاظها من نومها، بل لأن أي نقد أو حديث خــــارج ســــياق السائد يمثــــل ماء عكرا يسهل الاصطياد فيه بالنســبة لمن يحبون تصفية الحسابات، فكيف به عندما يكون مكتوبا موثقا ويسهل اجتزاؤه نصاً، عدا عن كونه دينيا، أي بمعنى آخر ‘شديد القابلية للاشتعال’.
تلك هي الوسيلة الأسرع للخروج بالمستهدف بها عن سياق ‘الجماعة’، أو بالسجن أو إباحة الدم أو التكفير والخروج من الملة عندما تتوفر الذرائع الكافية، والأمثلة واسعة وكثيرة وتتكرر بشكل شبه يومي. إن على ‘المستعيرين’- من استعارة المسميات من دون عمل بها- أن يعترفوا بأن ميكافيلي -الشيطان البشري الماكر وصاحب مقولة الغاية تبرر الوسيلة ومؤلف كتاب ‘الأمير’- كان إمامهم أو مهديّهم المنتظر، المجدد للمقاصد والوسائل معا، وللمؤشرات العديد من القرائن. بداخل كل منا شيطان وميكافيلي، لكن أسوأنا من لا يعترف بوجوده ويسميه شيئا آخر.
تلك المواجهات وإن كانت أحيانا تتيح جوا إيجابيا قد يفضي إلى فائدة أو حيز جديد من الفهم وكشف عورات الواقع ومن يعيشون خفية على هامشه، إلا أن معظمها خارج عن سياق المعلوم إلى النوايا، وهنا تكمن الخطورة. فالتكتيك الذي يتبعه هؤلاء ينطلق من استنباط وتأويل النوايا بشكل ملحّ واعتبارها أكبر دلالة من النص نفسه ومن السياق كله، من دون أن يكون لهذا الفعل استنكار حقيقي لدى العامة من غير الجماعتين المتواجهتين. المهم أن يبدو داعي الإصلاح (الخارج عن السائد والقائم) أنه في الصف الخطأ دوما، ليكون في خطر دائم يحثه على الاستسلام. وكما قال ميكافيلي:’المصلح يهاجمه خصومه بحماس شديد في كل فرصة ـ بينما يدافع عنه الآخرون دفاعا فاترا، حتى أنه يواجه خطرا كبيرا جدا، وهو ما بين أولئك وهؤلاء’. فعندما تحدث ردة الفعل وتسوء الأجواء وتشن الحملات، فإن أعضاء ‘حزب الكنبة’ سريعا ما يبرأون من الضحية، ويقفون في صف القاتل لمجرد أنه لا يزال يمسك بسيفه ويوجه نصله إلى وجه شاهدٍ شهد أو ربما ‘مشفش حاجة’، لكنه مستعد للإدلاء بشهادة مفصلة على مزاج القاتل تمنع عنه – ولو مؤقتا – أن يكون التالي. المهم لضمان طواعية الضحية والشاهد، أن يكون جزاء الضحية من غير جنس العمل، لا تشترط فيه العدالة، بل القسوة العارمة مع ضمان وجود الشاهد لأخذ العبرة، وهي وصية ميكافيلية أخرى.
من السهل أن يتعرض أي خارج عن مألوف ‘المستعيرين’ لحملة تحركها ضغائن شخصية، أو أهداف مركبة بعضها لا يستهدف الضحية شخصيا، بل يريد أن يجعله كبش فداء لغاية ‘سد الذرائع’. واللافت أن كل من يدرك أن الموضوع أكبر من حجمه وهذه عادة حملاتهم، سيلتزم الصمت اختيارا ويصبح ‘كنبة’، أو سيبرأ – من باب المبادرة للانبطاح – ويقدم نذور الوفاء والطاعة للجاني خوفا من ‘عضة الكلب’ حتى إن كان بلا أنياب.
هذا المشهد يتكرر مع فروقات ضئيلة، وقليل من المتابعين للأحداث يلاحظه أو يشير بأي طريقة إلى إدراكه له، ربما خوفا لا جهلا، فمثلا كتب أحدهم يشمت بأحد مشايخ الشيعة بعرض فيديو له وهو يموت خلال خطبته على المنبر، واعتبر أن ‘الله أهلكه على المنبر’ حتى لا يكذب على الله ورسوله، لكنني أجزم أن هذا الموقف بالذات لو حدث لأي من مشايخه هو لكان قد عرضه بمنظور مختلف تماما، كالحديث عن حسن خاتمة الشيخ وموته في بيت الله وخلال تأدية مهامه الدينية العظيمة، وها هو فضيلة الشيخ ‘يلقى ربه على منبر رسول الله’ ولربما نسمع شهادات مغلفة بالأيمان المغلظة من جموع الحاضرين أنهم رأوا خيولا بيضاء وملائكة تحمله إلى السماء! ليس في هذا المثال تزكية لفئة على أخرى، فكلهم في الممارسة سواء.
وبينما يبدو حديث بعض المشائخ عن’الكرامات’مستحبا ملهما، فإن الخطاب نفسه يبدو خرافيا شركيا إذا بدر من مشائخ لا ينتمون للتيار الناجي، كالدكتور عدنان إبراهيم أو علي الجفري أو الفالي – وكل من هؤلاء المشايخ له تياره الخاص – مع أن القصص تكاد تتطابق في ظروفها. وعموما فإن ما يرونه خطأ عند الآخر، يصح بكل الوسائل عندما يخرج من ظهرانيهم، فإذا جاء من يستنكر تطابق الفعل وتناقض القياس، فإنهم يعمدون إلى شغل المتصيدين بكثرة التناقضات وتلاحقها بشكل يعجز معه اللحاق بشيء، أو يصبح الأمر مملا لكثرة تكراره.
المؤشر في كل ما سبق أن الممارسات التي يراها هؤلاء قنابل عنقودية في يد الآخر، يمكن أن تكون في نظرهم لوحة فنية رائعة أو ألعاباً نارية في يد ‘الشيخ المكنّى بأبي فلان’ وهي تحرق الآخر. الأمثلة كلها تستحضر الوسيلة والغاية نفسها، يعض على نواجذها كل من قرأ لميكافيلي، ويسعى لمعرفة من أين تؤكل الكتف، أو أنه لم يقرأه – وهذا الأغلب – لكنه جندي مجند تأتلف روحه لروح أفكار ميكافيلي ومبادئه التي كتبت منذ عقود طويلة. وهنا يجب طرح تساؤل ملحّ حول ماهية ذلك الدين ‘المستعار’ -الذي يسير بمحاذاة الدين الإلهي- والذي يجمع بين مبادئ ميكافيلي و’أبو فلان’.

‘ كاتب اماراتي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد عبد الرحمن - السودان:

    صدفني أخي الكاتب لقد تركت كل هؤلاء المشايخ منذ زمن. لكم دينكم و لي دين.
    في زمن مضي لم نكن نملك فيه وسائل الإتصال الحديثة فكان كل شيخ يغرد ماشاء له التغريد دون أن يطرف له جفن. الآن تغيير الحال أصبحت و أنا جالس في بيتي بالسودان أن الم بما يجري في نيويورك( رغم المقاطعة الأمريكية). مشايخنا لم يدركوا بعد هذا التطور و ابعاده التي قد تكون كارثية علي مستمعيهم.

  2. يقول A.rahman:

    لا تتوقع أن يرحل ميكافيلي من رؤوس الكهنة مادام يحكمنا الجهل .. الكهنة هم من حكم عقولنا في الجاهلية ولا يزالون في الإسلام , لقد حطم رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام الأصنام في مكة لكن يبدوا أن الكهنة أستطاعوا أن يعيدوا بناءها ويواصلون إلى الأن تعيشهم منها ولا أعتقد أن تجارتهم هذه ستنتهي طالما أن هناك من لا يزال يرغب في شراءها

إشترك في قائمتنا البريدية