الناس على دين المغنين!

يُقال عن الألحان العظيمة إنها تستطيع أن تبعث الرعشة في الجسد المسجى، والمرء الذي لا يميل إلى دنيا النغم يجري في عروقه دمٌ فاترٌ فلا يستطيع التحرر من سجنه الخاص دقيقة واحدة. نقرأ في كتاب «الأغاني» لأبي فرج الأصفهاني: «حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي أن أباه أخبره أن الرشيد رحمة االله عليه أمر المغنين، وهم يومئذ متوافرون، أن يختاروا له مئة صوت فاختاروها، ثم أمرهم باختيار عشرة منها فاختاروها، ثم أمرهم أن يختاروا منها ثلاثة ففعلوا». يقدم لنا هذا الخبر فائدة عظيمة وهي أن المغنين في بغداد كانوا أكثر من مئة في عهد الخليفة العباسي الخامس، واختار هذا تقسيمهم في طبقات منفصلة ثلاث، والنقد الفني في ما يخص الموسيقى والغناء لا يقوم على المزاج، أو على الفهم البسيط لمسألة التفضيل والتقدير، فقد كانت بغداد في ذلك الزمان قِبلة العلماء في الرياضيات والفلسفة والأدب، وتصنيف المغنين إذن يستند إلى علاقة فن الغناء بالشعر والمنطق والتأمل في المعنى الباطني للحياة الإنسانية، وكذلك إلى علاقته بفنون الأزياء والرقص والتمثيل وغير ذلك، بالإضافة إلى نظرة تمحيصية يقوم بها الناقد لذكاء المطرب وسلوكه الأخلاقي في المجتمع. كأني أرى مجموعة النقاد الذين قاموا بالمهمة التي طلبها الخليفة الرشيد، يضعون المُنشد تحت عدسة ميكرسكوب يحللونه فيها بواسطة النظر والفكر، ومع التأمل يعطون النتيجة النهائية لموقعه بين المئة المختارين من المغنين في بغداد ذلك الزمان.
شاعت في الأسابيع الماضية حكاية الخمسمئة ألف دولار، الأجر الذي طلبه الفنان كاظم الساهر، للمجيء إلى مدينة البصرة وتقديم حفل غنائي قصير يتم به افتتاح مباريات كأس الخليج 25. كذّب الساهر الخبرَ، وتمسك به من أشاعه من جهات إعلامية وفنية، لكن (القيصر) مثلما يدعونه اليوم عاد ونفاه ثانية، وقدّم إلى الرأي العام تفسيرا يبدو معقولا لرفضه المشاركة، وهو أنه كان ينشئ أغنية خاصة بالحفل، لكنها لم تكتمل بالشكل الذي يرجوه ويطلبه. من المعلوم أن الساهر يحمل الجنسية العراقية أولا، والهوية القطرية ثانيا، وهذه قُدمتْ له تكريما، وربما حصل على مما لا أدريه من الجنسيات العربية، بطريقة أو بأخرى غيرها، لكن المحك الذي يشعل الزناد فيها جميعا واحد، وهو العمل في دنيا الفن.
إن ما يقدمه أهل الغناء إلينا يصعب أن يلم أفضاله قلمٌ واحد أو عشرة أو حتى مئة، ولسنا هنا في سبيل تقديم نقد فني لتجربة الساهر الذي سطع صوته منذ عقود داخلَ العراق وخارجَه، وربما كسف بضوئه الكثيرين ممن شحت عاطفة أدائه من المطربين، وبهت بريق اسمه. ما نبغيه هنا هو مناقشة ما يصح وما لا يصح من أخبار تتناول حياة الفنانين النجوم، وكيف يتعامل معهم الناس.
يمكننا تعريف الغناء في البدء بأنه الفن الإنساني الذي يصلنا مكتملا، دون معين من أدوات الفكر، وموضوعه الأساس هو تجربة الحياة بكل شمولها، فنحن نشاهد ظل المغني يتمدد على وطنه يستشرفه ويحويه بصوته، حتى ثالث أثفية موقد دكناء في آخر بيت في أبعد قرية. نستطيع إذن أن نفترض، ودون أن نكون مغالين، أن صوت المغني وطريقة أدائه هما مرآة باطنية نبصر فيها شعبا بأسره، لأننا نتعرف من خلالها على أعماق كيان إنسانها الطبيعي. إننا نرى في الألحان كذلك حياة الأسلاف في المكان الذي نشأت فيه، فلو أن آلة تسجيل الأصوات كانت موجودة في الزمان القديم لكنا عرفنا الكثير عن أجدادنا البعيدين، مما نجهله عنهم اليومَ. هل يمكننا وفق هذا الاستنتاج عد المطربين مؤرخين في زماننا الحديث للمستقبل المقبل؟
إن وجود كل واحد منا على هذه الأرض ليس أكثر من زيارة قصيرة، وأكثر ما يحتاجه الفنان هو أن يعيش حياة بسيطة، للروح والجسد معا. سوق (هرج) معروف في بغداد، حيث تُباع الخردة والبضائع المستعملة والتي صارت من سقط المتاع، وهي تماثل سوق البراغيث في لندن وباريس، ويقع عند حد السوق الأخير مقهى أُزيل الآن وبقي منه ذِكره، ولندعوه مقهى الغناء، لأن صور أهل الطرب في العراق تغطي حيطانه فوق مستوى التخوت، إلى حد السقف، وآلة التسجيل كانت تنقي الهواء من كل ما فيه من شَجْوٍ وهم وحزن بواسطة الغناء ـ نحن في التسعينيات ـ وزرتُ المكان وكان الوقت ضحى، ودارَ حديثٌ بين الجالسين حول أجور المغنين في هذا الزمان، وروى لنا القهوجي حكاية عن المطرب حضيري أبو عزيز لا مجال هنا لفحص كذبها أو صدقها، فالخيال الجمعي يأتينا بالواقع الشعري، الذي هو التاريخ الواقع، وإن كان مفتعلا أو مفبركا، أو حتى كذبا محضا، مثلما صنع جمع من الناس قصة الخمسمئة ألف دولار، أجر مغنينا في الحفل المذكور.

مرةً أخرى مع صاحب كتاب «الأغاني»؛ يقول في إحدى الصفحات «إن العرب ما كانوا أهل غناء ولا موسيقى، إنما هم أهل حداء وغناء للإبل لكنهم اتصلوا بالفرس، وكان هؤلاء أهل غناء وموسيقى ومقامات. ثم جاؤوا للعمل في إصلاح الكعبة بعد أن هدمها سيل جارف، وتعلم العرب منهم الغناء وطوروا مقاماته وفصلوا في موسيقاه بعد قيام دولة الحضارة».

إن أخبار النجوم ـ وهم عادة من أهل الفن والرياضة والسياسة – في كل زمان يشبه أمرها قصة كرة الثلج التي تولد صغيرة، وتتدحرج من أعلى إلى أسفل وتنمو في الأثناء وتكبر، ويختلف حجمها الأخير كثيرا وهيئتها عن شكلها الأول. قال القهوجي: في ذلك اليوم دخلت امرأة وتحدثت عن بؤسها وغدر الزمان، وأنها باعت كل ما في بيتها من أثاث في سوق «هرج» ولم تعد تملك شيئا غير يُتم أولادها وفقر الحال، ثم بكتْ. كان حضيري أبو عزيز جالسا في المقهى، ولم يكترث لبكاء المرأة المتسولة أحد. قام حضيري أبو عزيز من مكانه وفرش عباءته وسط المقهى على الأرض وأفرغ كل ما في هِميانه – وهو كيس يُجعل فيه المال ويُشد على الوسط – وظل يهتف بالحاضرينَ أن يؤدوا واجبهم بما يتطلبه الحال، ثم قال لها إن له حفلا يحييه في المساء في دار الإذاعة، وهو يتبرع لها بأجره لهذا الشهر. انتهت قصة صاحب المقهى، وغادرتُ المكان وتركتُ الحاضرين يتدثرون من البرد الشديد بأقداح الشاي الساخن ودفء جو الحكاية. بعد حوالي قرن من الزمان، يسمع الجمهور الآن أغنية حضيري «عمي يا بياع الورد» ويطربون لها بأصوات غير عراقية، خليجية ومغربية وشامية، وأدت الأدوات الموسيقية الحديثة دورها في نقل أنغام الكلام وحرارته الأولى، بالإضافة إلى روح بارئها، إلى السامع. هل كان لحادثة المقهى دورٌ في انتشار إحدى أغنيات حضيري أبو عزيز في جهات الأرض الأربعة، وهو أقصى ما يتمناه العاملون في دنيا الفن؟ لا أحد يستطيع أن يقرر أو ينفي العلاقة بين الأمرين، بالطبع.
مرةً أخرى مع صاحب كتاب «الأغاني»؛ يقول في إحدى الصفحات «إن العرب ما كانوا أهل غناء ولا موسيقى، إنما هم أهل حداء وغناء للإبل لكنهم اتصلوا بالفرس، وكان هؤلاء أهل غناء وموسيقى ومقامات. ثم جاؤوا للعمل في إصلاح الكعبة بعد أن هدمها سيل جارف، وتعلم العرب منهم الغناء وطوروا مقاماته وفصلوا في موسيقاه بعد قيام دولة الحضارة». ومع ذكر المقام نقول إن هذا اللون من الغناء قام وانتعش على أيدي اليهود العراقيين في التاريخ الحديث، ولم يأتِ هؤلاء بهذا الفن من حاضرهم، لكنه كان متجذرا في شجرة التاريخ الباسقة. وشاهدُنا هذه المرة العلامة ابن خلدون، فهو يقول في مقدمته في باب الغناء والعِمران عند العرب والعجم «إن هناك علاقة وثيقة بين العِمران في البلد ونوع الغناء، إذ أن حركة المجتمع لا بد أن تستكمل شروطها ليكون للألحان دورها كفن إنساني يمثل أعلى درجات التحضر». ويمكن النظر في هذا الموضوع من زاوية أخرى، عندما يسقط المجتمع في جحيم الفوضى والعنف فإن الألحان تغدو محض خواء يؤدي إلى الرغبة الشديدة في ارتكاب الشر، وفي المقابل نرى أن حياة الناس لا بد أن يكون فيها من الهناء والسعادة وكفاف العيش ما يكفي لإبداع أغنية تظل حيةً عبر الزمان مثل «عمي يا بياع الورد» وهذه تحكي بدورها عن رغد عيش العراقيين وسعته في ماضيهم القريب، أي في زمن إذاعة الأغنية أول مرة. هذه النتيجة تؤدي بنا إلى افتراض أن الأغنية الحديثة تمثل الطريقة التي يحيا فيها العراقيون في الزمن الحاضر، في بلادهم أو مهاجرين قاصدين سائر جهات الأرض. بعبارة أخرى فإن أغاني كاظم الساهر تمثل مرآة لما يجري من أحداث تخص عالم السياسة والاقتصاد والاجتماع في بلده الأول، العراق، وكذلك في بقية البلدان التي منحتْ هويتها الدائمة للفنان.
نستطيع وفق هذا الاستنتاج تحوير المقولة القديمة عن الملوك، والقول إن «الناس على دين المغنينَ» إذا أخذنا بالاعتبار أن الدين هو مجموعة العادات وطرق العيش والاعتقادات في المجتمع، أو أنه مرآة للمجتمع، حاله حال الغناء. إن ما تقدم يصح على فن الغناء في الخليج والشام كذلك، حتى مصرَ أم الدنيا لم تتحفنا في هذه العقود العِجاف بأغانٍ تشنفُ الآذان وتمتع القلوب المريضة بالشعور بالعُزلة والتخلف عن موكب الحضارة السائرُ دائما إلى أمام، ونظرة سريعة على واقع الحال في شرقنا الأوسط، نرى فيها ألوية التحضر ترتفع في بلدان المغرب من وطننا، والغناء فيها يخطو فيه المنشدون في ثِقة، وقد صرنا نسمعه ونطرب على أنغامه، حتى دون أن نفهم معناه.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية