من حلب، إلى القدس، ثم إلى غزة، سافر سليمان الحلبي الشاب إلى مصر، القاهرة، التي تعاني من ويلات الاحتلال الفرنسي. كان ذلك بعد الهزيمة التي ألحقها الجيش الفرنسي الغازي بالعثمانيين بقيادة سعيد مصطفى باشا عام 1799، وقُتل فيها 2000 رجل من الجيش العثماني، وغرق 4000، ووقع في الأسر عدد آخر.
تنكَّر سليمان، ابن الرابعة والعشرين، ابن حلب، عام 1800، على صورة شحاذ وتسلل إلى حديقة مقرّ القيادة العامة وقتل قائد الحملة الفرنسية على مصر، الجنرال كليبر.
كان ذلك في الثاني من صَفَر، ومن المسافة صِفْر.
لم يُطلِق عليه المحتلون الفرنسيون صفة «مُختل» بل أعدموه بأبشع الطُّرق.
بعده بمائة وخمس وثمانين سنة (1985) جاء سليمان آخر، هو سليمان خاطر، عنصر الأمن المركزي المصري، الذي عاش في طفولته مأساة مذبحة مدرسة بحر البقر، المدرسة التي أغارت عليها طائرات الفانتوم الصهيونية وقتلتْ فيها 30 طفلاً وجرحتْ 50 آخرين. جاء سليمان ليقوم بعملية من نوع آخر، متجاوزًا بَلادَة الحدود، ولم تكن هناك تهمة تنتظره، تبرّر للأعداء رعونة فعلته! غير تهمة «مُختل نوعًا ما!» التي سيطوِّرها النظام العربي فيما بعد حين يمحو كلمتين من التّهمة هما «نوعًا ما» ويُبقي على تهمة «مُختل» فذعر النظام العربي كان قد تضاعف، بحيث تّم إطلاق هذه الصفة على كل من قام بعمل كهذا ضد الصهاينة بعد ذلك.
في بلاد أخرى، حرص النظام العربي على ألا يكون هناك أيّ نوع من هذا الاختلال العقلي! فحصّن حدوده أكثر فأكثر، كي يمنع أيًّا من (المُختَلين) من ممارسة حقه في الاختلال.
لكن، وكما يعرف التاريخ، فإن هناك دائماً أبواباً خفيَّة، لا يراها إلا (المختلّون!) الذين لا يطيقون الصقيع الذي يغمر خنادقهم التي حشروا، بل حوصروا، فيها.
تَبِع سليمان الثاني (مختلون) كثرٌ، وفي عالم مثل عالمنا العربي، وعلى حدود ممتدة مع العدو الصهيوني، ليس هناك من يمكن أن يحبّ وطنه أحد مثل المُختلِّين.
ناصر إبراهيم البايض، المُختل، على الجبهة الأردنية الصهيونية، سار على خطى سليمان خاطر، بعد ذلك بسنة تقريباً، فكانت قصيدة «الفتى النهر والجنرال» له ولشهداء الجنون العربي.
«واغمر الضِّفتينِ بزهرِ دمكْ
فالنهرُ مُذْ كانتِ الأرضُ والحُلْمُ
والرّيحُ والقممُ الباردةْ
يَقسِمُ الرّوحَ نصفينِ للضِّفتينِ
وهل يصبحُ النهرُ نهرًا إذا ما
تجَمَّعَ في ضفةٍ واحدةْ؟!»
في أحيان أخرى كان أحمد المجالي، ابن مدينة الكرك في الجنوب الأردني، في مطلع ربيع عام 1983، يشقّ طريقه عبر جنوب لبنان، ليقاتل، هل كان ضحايا صبرا وشاتيلا أمام عينيه وهو يخوض معركته، ويستشهد. أحمد الأردني الذي سقط على أرض لبنان دفاعًا عن فلسطين، كما يصفه الفنان كمال خليل، كتبنا له وغنينا:
«هذي فلسطينكْ إلكْ، هي إلكْ
مثل الطفولة وصدر إمَّكْ والكركْ
هيِّ إلكْ
هذي فلسطينك إلك، للي بيحمل رايتكْ
ويمسح غبار الليل عن مرتينتكْ، هيِّ إلكْ»
لم تكذب الأغنية، ولم تكن حالمة، ربما يمكن وصفها بأنها أغنية مُختَلَّة أيضًا، لكننا كتبناها ولحنّاها، وغنيناها، وحفظها كثير جدًا من المُختلّين.
يمكن أن نواصل الحديث طويلاً في قراءة كتاب «فضائل الاختلال في زمن الإذلال» الذي يحتاج إلى مؤلف يكتبه، لكننا سنتوقّف عند صبيحة الثامن من أيلول الجاري، حينما مسح ماهر الجازي الغبار عن بندقية أحمد المجالي، ونفّذ عمليته الخاصة/ العامة، وأمام عينيه أكثر من أربعين ألف شهيد من غزة، ماهر حفيد هارون الجازي بطل معارك كثيرة في عام 1948، وحفيد مشهور الجازي بطل معركة الكرامة، لكن أحدًا لم يجرؤ هذه المرّة أن يصفه بالمُختَل، ببساطة شديدة؛ لأن الشعب الأردني والشعب الفلسطيني وهما يخرجان للهتاف باسمه، ويوزِّعان الحلوى، ويحتفلان بقدرة روحه على التحليق، وإلى ذلك صوت أبيه الذي هزّ كل شيء «دم ابني ليس أغلى من دماء أبناء غزة». كلّ هذا الرفض العارم للمجازر الصهيونية وحرب الإبادة أغلق أفواه من اعتادوا على وصفه ووصف أمثاله بالمُختلّين، وقد استطاع ماهر أن يعثر على المكان الوحيد الذي يمكن أن يكون فيه العقل بكامل عافيته، وهو المقاومة؛ المقاومة التي تجلّت أيضاً في تلك المواكب التي تدفقت شلالات نحو بيوت الاعتزاز والعِزَّة لقبيلته «الحويطات» المواكب التي جاءت من جميع الجهات في الأردن، وفوداً وزعامات كبيرة وعشائر، كان لها دورها الوطني الكبير المناصر للفلسطينيين والمشارك في معاركهم، قبل النكبة وبعدها.
وبعد:
لا نستطيع إلا أن نردِّد ما قلناه سابقاً لماهر ومَن سبقوه ممّن عثروا على الأبواب التي تليق بأرواحهم وتليق بشعبهم:
«قُلْ لهمْ: صمتكمْ عاركمْ
والشّـهادةُ ليست فضيحةْ
لنُخبئَها مثل عوْراتنا
قُلْ لهم: إنها مجدُنا
وبها تتجمَّعُ في الرَّحمِ أسماؤنا لنكونْ
قُلْ لهم:
يرجِعُ الشهداءُ لأحلامِهمْ، وطفولتهمْ
كي يكونوا لنا وطنًا، لا سجونْ
قلْ لهم: نحنُ قتلاهُمُ
قلْ لَهمْ:
لكنهم وحدهَم ميِّتونْ»