دفعني الروائي الصديق واسيني الأعرج في موضوعه المنشور بتأريخ 20 أكتوبر/تشرين الأول 2021 في «القدس العربي» بعنوان (هل أصبحت المؤسسة النقدية العربية دار افتاء؟) إلى التفكّر الدقيق في خريطة النقد الأدبي – العربي والعالمي – والمآل الذي انتهى إليه النقد الأدبي في عصرنا الراهن.
أنهيتُ قبل أيام قراءة كتاب يمتلك أهميته الخاصة – وإن كان متقادماً بعض الشيء – في النقد الأدبي عنوانه (المرآة والمصباح: النظرية الرومانتيكية والتقليد النقدي) لماير إج. أبرامز. النسخة التي قرأتها من هذا الكتاب هي أحد إصدارات جامعة أكسفورد البريطانية لعام 1971؛ لكن طبعة الكتاب الأولى ظهرت عام 1953. دفعني لقراءة الكتاب التقريظُ الرائع الذي كتبه الراحل عبد الوهاب المسيري بحقّ الكتاب ومؤلفه في سيرته الذاتية الممتعة، ويبدو أنّ هذا الكتاب كان أحد المصادر المرجعية الأساسية لدى كلّ دارسي الأدب في الجامعات الأمريكية في خمسينيات القرن الماضي وما بعده.
أتساءل ابتداء: لماذا لم نعُدْ نقرأ في عصرنا هذا كتباً على شاكلة كتاب أبرامز؟ ربما من الأفضل أن ينقلب السؤال من صيغة التساؤل عن سبب الغياب إلى مساءلة إمكانية الوجود أصلاً: هل يمكن أن نلمح في عصرنا الراهن ملامح شخصية ناقد أدبي تتشابه – في قليل أو كثير – مع شخصية رينيه ويليك René Wellek أو هارولد بلوم Harold Bloo أو كلينث بروكس Cleanth Brooks أو ويليام ويمسات William Wimsatt أو فرانسيس آر. ليفز Francis R. Leavis أو نورثروب فراي Northrop Fry أو ويليام إمبسون William Empson ؟ هذا سؤال يقودنا بالضرورة إلى سؤال آخر: هل يمكن أن نشهد في عصرنا هذا أعمالاً مكتوبة بروح تناغم تلك التي كتِبت بها أعمال على شاكلة: الأيقونة اللفظية Verbal Icon أو تشريح النقد Anatomy of Criticism، أو سبعة أنماط في الغموض Seven Types of Ambiguities ؟ وهل يمكن أن نقرأ تأريخاً حديثاً مختصراً أو موسوعياً للنقد الأدبي على شاكلة «تأريخ النقد الأدبي الحديث» ـ ذلك العمل الضخم الذي عمل عليه المنظّر الأدبي الراحل رينيه ويليك، ونشرته جامعة ييل على مدى يقارب العشرين سنة؟ إجابتي على كل هذه الأسئلة هي باختصار: لا أظنُّ أنّ شيئاً مثل هذا سيحصل في أيامنا هذه، والأسباب وراء هذا كثيرة يمكن إجمالها في عبارة مختصرة: تغيّر روح العصر وإيقاعه واشتغالاته وأولوياته الضاغطة على طبيعة النتاج الأدبي السائد.
٭ ٭ ٭
لم أزل حتى يومنا هذا أذكر تلك اللحظة المفصلية التي أعقبت نشرَ أول كتابٍ قصصي لي «ممرٌّ إلى أحزان الرجال» عام 1970. قضيتُ أياماً أترقّبُ ردّة الفعل تجاه عملي، وكنتُ أتطلّعُ لحيازة مباركة كاهنٍ أكبر، ومن عساه يكون سوى بعض الأسماء المكرّسة، التي عُدّت وقتها مانحة صك الدخول إلى جنّة السرد الموعودة، بعد تعميد الداخلين بماء الولادة الأدبية الجديدة، كانت هذه ردة فعلٍ طبيعية؛ فنحن كنا في نهاية المطاف حينذاك جزءاً من حراك محلي وعالمي، لا يزال يعتمد المرجعيات المكرّسة لبعض سَدَنَة النقد الأدبي وإن كانت حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، قد شهدت ولادة انعطافاتٍ ثورية تطلّعت لكسر المرجعيات الثقافية، التي يمكن أن تجعل فلاناً من النقّاد قطباً مرجعياً تُخشى سطوته، ثمّ أن العالم ما كان يموج بهذه الحركة التفاعلية عبر الشبكة التواصلية التي تتيحُ نشر الحس الثقافي الثوري على مستوى العالم، وما كنّا حينذاك نمتلك الرغبة السايكولوجية – ولا التصوّر الفكري كذلك – وبما يمكّنُنا من إشعال معارك أدبية تطيحُ بالمرجعيات المهيمنة. كنّا نسعى لنشر أعمالنا والحصول على قدر مقبول من المباركة النقدية وحسب. عندما يمتدّ بي خيالي إلى تلك الأيام الخوالي أكاد أذهل لفرط سرعة التغيير الذي اجتاح عالمنا في بضعة عقود، وأتفكّر بخاصة في الجوانب الأدبية من هذا التغيير (لندع الآن العلم والتقنية جانباً، ولنقصرْ حديثنا في حدود خريطة الأدب).
٭ ٭ ٭
لستُ هنا في معرض تقديم خريطة تضاريسية للنقد الأدبي في القرن الحادي والعشرين، وأزعم أننا غادرنا العصر الذي يمكن أن نشهد فيه نظراء لكلّ من إف.آر. ليفز أو رينيه ويليك أو فرانك كيرمود أو رايموند ويليامز. لماذا آل الحال إلى هذه الكيفية؟ ذلك واحد من الأسئلة الإشكالية التي لطالما تفكّرتُ فيها ملياً وحاولت قدر استطاعتي أن أقف على بعض مسبباتها التي سأوردها هنا:
ـ الميل المتعاظم لتحطيم المرجعيات: من المعروف أنّ إحدى المثابات الواضحة التي تسِمُ عصرنا هي الميل المتعاظم لتحطيم المرجعيات المهيمنة، وإقامة نمط من الأخلاقيات الفردية التي تنفر بطبيعتها من الانشداد لأي مرجعية خارجة عنها، واعتبارها نموذجاً معيارياً يتوجب التعامل معه، على أساس أنه هو ما يمنح المشروعية الواجبة لأي نسق فكري يجتهد الفرد في تطويره. النقد الأدبي بهذا المنظور هو مرجعية تتمّ على أساسها مباركة العمل الأدبي، وإدخاله في حظيرة المُعْتَمَد الأدبي Literary Canon؛ وبالتالي لا بد من توقّع حدوث تهشيم مستديم سيطال هذه الرؤية التي ترى في الناقد الأدبي (الحارس الكهنوتي) الذي آلت إليه وحده مهمّة الحفاظ على نقاوة المنجز الأدبي من التلوّث.
ـ النقد الأدبي غدا فرعاً من دراسة السياسات الثقافية: يمكن للمدقّق المتفحّص في ثقافة القرن الحادي والعشرين أن يرى نزوعاً لا يفتأ يتعاظم نحو توظيف نظرية الأنساق الشاملة بكيفية مناظرة لما يحصل في كلّ المباحث المعرفية الأخرى، العلمية والإنسانية، وبطريقة ما عاد معها أي مبحث معرفي تقليدي جزيرة قائمة بذاتها، بل هو جزء في منظومة دينامية معقدة؛ وعلى أساس هذه الفكرة صار النقد الأدبي مبحثاً فرعياً في نطاق الدراسات الثقافية، التي ترى الأدب تياراً من تيارات الثقافة وليس كينونة قائمة بذاتها.
ليس المقصود بالثقافة الثالثة – كما قد يتبادر إلى ذهن المرء أوّل الأمر – أن تكون تركيباً تخليقياً يجمع الثقافة العلمية مع الأدبية ليخرج منها بخلطة ذات عناصر متوازنة من تينك الثقافتين؛ بل يجادل بروكمان في أطروحته الفكرية بأنّ نموذج المثقف الشكسبيري، الذي عُدّ النموذج الأعلى للمثقف الموسوعي حتى خواتيم العصر الفكتوري، لم يَعُد صالحاً ليكون النموذج المبتغى في عصر ما بعد الثورة التقنية الثالثة.
ـ الجغرافيات المحلية وتأثير العولمة: يرتبط مفهوم الناقد الأدبي الكلاسيكي بالجغرافية المحلية، وببواكير نشأة الدولة القومية، ويمكن للقارئ أن يجري مسحاً سريعاً للأسماء النقدية الأدبية الكبيرة التي شاعت في القرن العشرين وسيكتشف أنّ كلاً من تلك الأسماء ارتبطت بجغرافية قومية محدّدة، جعلت من تلك الأسماء عناصر تُعلي شأن المكانة القومية وتُمَيّزُها، بالمقارنة مع الآداب القومية الأخرى. ليس صعباً أن نتخيّل ما الذي فعله طغيان المدّ العولمي في تهشيم صورة الناقد الأدبي، الكلاسيكية القريبة من الكهنوت الأدبي؛ فقد انحلّت التخوم الأدبية القومية لصالح مركّب تخليقي عولمي يسعى لتوظيف كلّ التجارب الإنسانية بصرف النظر عن جغرافيتها المحلية، ويُضافُ لهذا الأمر شيوع النقد الثقافي ما بعد الكولونيالي الذي صار فضاء مفتوحاً على كلّ الآداب العالمية. هل نتوقّع بعد هذا أن يظهر لنا ناقد على طراز إف. آر. ليفز يصرّح بأن ليس ثمة من شعراء إنكليز سوى ثلاثة: تي. إس. إليوت، وجيرارد مانلي هوبكنز، وو. ب. ييتس؟ هذا المثال الأدبي النقدي المُغإلى في رؤيته الضيقة، لم يعُد له وجود في عالمنا اليوم بكلّ تأكيد.
-تغوّل سطوة الناقد الأدبي: انقضت إلى غير رجعة تلك الأزمان التي كان فيها الناقد الأدبي هو مَن يُحيي ويميتُ أدبياً. قد يبدو هذا السبب منطوياً على شيء من القسوة المفرطة؛ لكنه حقيقي ومنظور ويمكننا تلمّس حيثياته، خاصة في بيئتنا العربية. ظلّ الناقد الأدبي الكلاسيكي موهوماً بمساكنة الأعالي الثقافية المهيمنة على المشهد الثقافي بكامله، وظلّ معتكفاً في صومعته الأكاديمية التي وفّرت له نوعاً من مظلّة حمائية لوقتٍ ما؛ لكنّ الانعطافات الثقافية الثورية التي جاءت في أعقاب مواريث ما بعد الحداثة كانت أقوى من متاريس كامبريدج، أو أكسفورد، أو سائر المعاقل الأدبية الكلاسيكية الموهومة بالحصانة المنيعة، إزاء المتغيرات العاصفة، خاصة تأثيرات الثورة الرقمية وهي تعيد تشكيل أنساق الخطاب الذي يتوجّه به الناقد إلى عموم القرّاء.
– انحلال الثقافة الأدبية والثقافة العلمية، ونشأة «الثقافة الثالثة»: يبدو أن هذا العنصر هو العنصر الأهمّ، الذي دقّ الإسفين القاتل في قلب مفهوم الناقد الأدبي الكلاسيكي؛ وعليه سأعالجه بقدر أكبر من الاستفاضة بالمقارنة مع العناصر السابقة.
إنّ المتابع الحصيف لتأريخ الثقافة والأفكار لن تفوته ملاحظة الانعطافة الثورية في مفهوم (الثقافة) بعد أن جلب اللورد سي. بي. سنو في محاضرته الكامبريدجية ذائعة الصيت عام 1959 النظر إلى الهوة العميقة التي تفصل بين الثقافة العلمية والثقافة الأدبية ( وهو ما تشير إليه مفردة «الثقافتان» التي صارت منذ ذلك الحين علامة مميزة ممهورة بتوقيع اللورد سنو) ثمّ تطوّر الأمر حتى بلغنا عتبة (الثقافة الثالثة) التي صارت هي الأخرى علامة ممهورة بتوقيع الكاتب والمحرّر الأدبي جون بروكمان.
ليس المقصود بالثقافة الثالثة – كما قد يتبادر إلى ذهن المرء أوّل الأمر – أن تكون تركيباً تخليقياً يجمع الثقافة العلمية مع الأدبية ليخرج منها بخلطة ذات عناصر متوازنة من تينك الثقافتين؛ بل يجادل بروكمان في أطروحته الفكرية بأنّ نموذج المثقف الشكسبيري، الذي عُدّ النموذج الأعلى للمثقف الموسوعي حتى خواتيم العصر الفكتوري، لم يَعُد صالحاً ليكون النموذج المبتغى في عصر ما بعد الثورة التقنية الثالثة، التي نشهد آثارها في حياتنا الحاضرة، ولم تعُد الثقافة تمتلك دلالاتها المرجعية بمقدار التمرّس في الدراسات الإغريقية واللاتينية والآداب الكلاسيكية، وكذلك لم تعد الثقافة دلالة على الانعطافات الثقافية المبتكرة، حتى لو تلبّست بمسوح الثورية المتطرفة التي شهدنا آثارها في حركات الحداثة، وما بعد الحداثة إلى جانب الحركات الفرعية التي تفرّعت منها، أو اعتاشت على نسغها مثل: البنيوية واللسانيات والسيميوطيقا والتفكيكية وتحليل الخطاب، إلخ من مفردات السلسلة الطويلة؛ بل صار العلم وعناصره المؤثرة في تشكيل الحياة البشرية هو العنصر الحاسم في الثقافة الإنسانية، بعد أن غادر العلم مملكة الأفكار والرؤى الفردية، والأيديولوجيات وصار قوة مرئية على الأرض بفعل مُصنّعاته التي لامست أدقّ تفاصيل الحياة البشرية. إذا كان هذا هو حال المشتغل بالأدب فسيكون من الطبيعي أن يطال التغيير الراديكالي طبيعة اشتغال الناقد الأدبي الكلاسيكي الذي لطالما عرفناه في العقود السابقة.
٭ ٭ ٭
سأضع خاتمة هذا المقال في نطاق هذه المقايسة الإطارية الشاملة: لم يعُد النقد الأدبي اشتغالاً مكتفياً بنطاقه الكلاسيكي المعهود؛ بل صار عنصراً في نسق مركّب ثقافي شامل عنوانه «الدراسات الثقافية» بعد أن غادر الأدب مواقعه الحصينة في قارة الأدب، التي قرأنا عنها واستطبناها من قبلُ؛ لكنّ تغييراً عاصفاً وشاملاً سينالُ الأدب – فضلاً عن الثقافة ذاتها – في السنوات القليلة المقبلة نحو ثقافة جديدة عنوانها «الثقافة الثالثة» – هذه الثقافة التي ستعيد تشكيل الوجود البشري على كلّ الأصعدة، بخاصة في نطاقين حيويين: التعليم والسياسات الثقافية.
كاتبة وروائية ومترجمة عراقية
كان لي صديق في الجامعة يسمي النقد الأدبي كريات الدم البيضاء التي تدافع عن الجسم ضد الاجسام الغريبة.لكن المشكلة اليوم ان
الأدب نفسه أصبح جسما غريبا وكريات دم بيضاء في آن..فمن سيدافع عنه ؟
مقال عميق… شكرا على هذه المحاولة التنظيرية… اكون ممتن لكي سيدتي كثيرا لو تفضلت بالشرح أكثر لمفهوم الثقافة الثالثة… لم استيعبها صراحة…