الناقد التقويمي والناقد التأويلي

حجم الخط
0

يقول الناقد رونان ماكدونالد (إذا كان الناقد راغبا في أن يكون مقدرا وذا قيمة، ومهتما كذلك بالوصول إلى جمهرة القراء، فعليه أن يكون تقويميا) «كتاب موت الناقد».
أخذت هذا القول مدخلا لما أريد أن أنفذ إليه وهو، متى يكون الناقد تقويميا ومتى يكون تأويليا، وهل هو خيار للناقد أن يختار بين القراءتين؟ أو أيّهما سيكون أفضل لآلية تحليله للنصوص؟ أم هناك عوامل تفرض عليه هذا الخيار؟ أم أنّ النص هو الذي يفرض عليه هذا؟ لقد اقترن مفهوم التأويل بنصوص ما بعد الحداثة وفق ما أنتجته المناهج النقدية، التي ظهرت ما بعد الحداثة، أو كما هو ثابت أنّ مفهوم النقد التأويلي قد اقترن بمفاهيم ما بعد البنيوية، التي عمدت إلى إقصاء القارئ من عملية إنتاج النصوص، كالتفكيك والسيمياء والتاريخانية الجديدة، التي منحت القارئ قدرا واسعا في تقاسم تأويل النصوص بعد أن جعلته البنيوية خارج هذه الدائرة تماما،
فجاءت مناهج التأويل بعد الدعوات التي أطلقها نقاد منتصف القرن الماضي مثل رولان بارت، صاحب «موت المؤلف» وجاك دريدا صاحب «لا شيء خارج النص» هذه الدعوات التي قادت في نهاية المطاف إلى مفاهيم عدّة كان أحدها، التأويل، أي إعطاء القارئ حق المشاركة في تفسير النصوص، وفيما يخصّ الناقد عليه أن يأخذ بتوجه النصوص وحدها، وهي التي تملي عليه أيا من القراءتين يختار.
لكن الحقيقة أنّه ليس للناقد أيّ خيار بين القراءة التقويميّة، أو القراءة التأويليّة، إنّما النص هو الذي يفرض على الناقد الحاذق أن يحدد نوعيّة القراءة التي تتوافق مع معطيات النص، من خلال قراءته قراءة متأنية وتحديد مواطن الجمال والقبح والقوة والضعف في النص، فبعد أن يقوم الناقد بقراءة النص قراءة أوليّة ـ القراءة الواحدة لا تكفي مطلقا- لتحديد زوايا النظر إلى النص، لكن على الأقل ان يقرأ النص قراءتين – – ففي كل نص قوة وضعف، وما يشّد وما يدهش، وفيه حشو ودور الناقد، أن يعمد إلى تحديدها، ومن ثمّ فلترتها بعين الناقد الحاذق المثقف المتمكن من أدواته، العارف بما يكتب، وعما يكتب المسلح بكل أنواع المعرفة في موضوعات الأدب شعره ونثره والفن وكل ما يمتّ إلى عملية إنتاج النص، سواء قوانين الخطاب الأدبي، أو من حيث اللغة والقواعد والإملاء وعلى معرفة عميقة بالأوزان التقليدية، وكل ما يدخل عليها من زحافات وعلل وكاملها ومجزوؤها والقافية وأنواعها وعيوبها، وما يجوز وما لا يجوز، وعلى معرفة بعلم اللغة والقواعد والإملاء والإعراب، وأن يكون مطلعا على المعارف وأصول النثر والبلاغة والفصاحة والمحسنات البديعية، من تشبيهات واستعارات وكنايات وضروب القول، وإذا كان الأمر يتعلق بشعر التفعيلة، فعليه أن يكون على علم بكل مفاصل البحور ومجزوءاتها، والقافية وضروبها، وإذا كان النص يخصّ قصيدة النثر فعلى الناقد أن يعرف آليات قصيدة النثر، سماتها وما يجوز وما لا يجوز فيها، على سبيل المثال، هل يحق لشاعر قصيدة النثر أن يستخدم أوزان الشعر التقليدية؟ هل يحق لشاعر قصيدة النثر أن يستخدم أوزان شعر التفعلية؟ هل يحق له استخدام القافية التقليدية في قصيدة نثر؟ هذه الأسئلة وغيرها الكثير مما يخصّ الشعر- وأيضا هنالك أسئلة تخص بقية أنواع الأدب كالمسرحية بين المأساة والملهاة، والرواية والقصة والنص المفتوح، وغيرها، وكذلك كل ما يخصّ الفنون بكل أنواعها – فالناقد يجب أن يكون ملمّا بثقافة حقيقية وعميقة في الموضوع الذي يكتبه عنه وهذا ما يسمى بأدوات الناقد.

كيف يحدد النص نوع القراءة؟

إنّ النص هو الذي يفرض نوع القراءة على الناقد، ولن يكون هناك خيار لدى الناقد الحاذق بالمطلق في تحديد نوع القراءة، هل ستكون تقويمية أم تحليلية؟ من خلال قراءته للنص قراءة دقيقة، وتحديده لآليات النصوص وأدوات المؤلف وطريقة تعاطيه مع النص ـ فبعد أن ينهي الناقد قراءته للنص سيكتشف إن كان هذا النص – شعرا أو نثرا- يحتوي على أخطاء لغوية إملائية قواعديّة، أو في الوزن، أو في القافية في ما يخص الشعر، وما ينطبق على الشعر ينطبق على بقية أنواع الأدب في كل ما يتعلق في قوانين الخطاب الأدبي، أم أنّه نص متكامل وأنّ مؤلفه متمكن من أدواته الإبداعية في مجاله كتابته – فإذا كان النص مستوفيا جميع هذه الشروط فعلى الناقد أن يذهب مباشرة إلى النص، ويقوم بقراءة تأويلية له، ومفهوم التأويل هو قراءة فكرة النص وما يرمي إليه بمعنى آخر يقوم بتفسير النص للقارئ من خلال تبسيطه وشرحه وكشف الغامض والمخبوء في النصوص، بطرق نقدية علمية سهلة، بعيدة عن لغة المؤلف، أيّ أن يتولى الناقد عملية شرح مضمون النص، ويحدد زوايا النظر إليه وكيفية الدخول إلى عوالمه وتحليل صور وكل ما كان المؤلف يعنيه، أو مقاربة ما كان يدور في قصدية المؤلف، حسب سياقات المناهج: الاجتماعي، النفسي، التاريخي التي تتيح القراءة والتوصل إلى معنى النصوص في محاولة إلى الاقتراب من المعنى الحقيقي في قصد المؤلف. فإذن عمل الناقد المؤول هو (تحديد المعاني اللغوية في العمل الأدبي من خلال التحليل وإعادة لغة المفردات والتراكيب من خلال التعليق على نص ما – دليل الناقد الأدبي – البازعي والرويلي 2002) معززة بقدرة وتطلع الناقد المؤول حسب وعيه الجمالي ومرجعيته الفكرية وأساليبه المتراكمة من خلال الدراسة، أو الثقافة والتي سوف تعززان قدرة الناقد للوصول إلى بواطن النصوص وتوسيع دائرة الفهم وإضاءة المعتم من النص.
ولعل من أبرز عيوب النقد التأويلي أنّه يذهب مباشرة إلى النص ويبدأ بتأويله متغاضيا عن جميع العيوب التقنية والفنية واللغوية، وكل ما يمتّ إلى قوانين الخطاب الأدبي بصلة كالوزن والقافية في ما يخصّ الشعر مثلا – لأنّ الناقد التأويلي غير معني بكشفها، أو حتى مجرد الإشارة إليها لواحد من السببين الآتيين: إما للمجاملات الشخصية، وإمّا لنقص في أدواته النقدية، وبالتالي يتمّ غضّ الطرف عن الخروقات التي يرتكبها المؤلف بسبب عدم الإشارة إليها، سواء أكان عدم الإشارة إليها بشكل متعمد (وتلك مصيبة) أو بشكل غير متعمد من خلال قصور في أدواته النقدية (والمصيبة أكبر) لأنّ هذا سوف يرسل إشارات خاطئة إلى المؤلف بأنّه قدّم عملا أدبيا أو فنيّا متكاملا لأنّ الناقد التأويلي أعطاه العلامة الكاملة في قراءته هذه وهذا خطأ وانحراف واضح عن مفهوم ورسالة النقد، التي لخّصها ميخائيل نعيمة في كتابه الغربال بقوله (مهمة الناقد هي غربلة النصوص لا غربلة أصحابها – «الغربال لميخائيل نعيمة».
أمّا النقد التقويمي فله آلية مختلفة عن النقد التأويلي فهو لا يتغاضى عن أيّ خروقات لقوانين الخطاب الأدبي، بل يسارع إلى الإشارة إليها وتقويمها من خلال تشخيص الأخطاء في نسق الخطاب، وهذا ما يحاول أن يتجنبه غالبية النقاد لأنّهم يدخلون في صدام مباشر مع المؤلف، في حالة الإشارة إلى مواطن الخلل في نصّه، ويشترك الناقد التقويمي مع الناقد التأويلي بعملية شرح مضمون النص وتحديد زوايا النظر إليه، وكيفية الدخول إلى عوالمه وتحليل صور وكل ما كان المؤلف يعنيه أو مقاربة ما كان يدور في قصدية المؤلف حسب سياقات المناهج: الاجتماعي، النفسي، التاريخي، التي تتيح القراءة والتوصل إلى معنى النصوص في محاولة إلى الاقتراب من المعنى الحقيقي في قصد المؤلف. لقد وضع ماكدونالد أربعة شروط للناقد التقويمي هي:
1 ـ أن يكون مقدرا
2 ـ ذا قيمة
3 ـ مهتما كذلك بالوصول إلى جمهرة القراء
4 ـ عليه أن يكون تقويميا
الواضح في هذه الشروط التي أشار إليها ماكدونالد، أنّه أعطى الأفضلية للناقد التقويمي ووصفه بأنّ يكون مقدرا من قبل القارئ والمؤلف، على حدّ سواء وله قيمة في عملية إنتاج النص، وكذلك سيصل في طريقة تحليله هذه إلى أكبر قاعدة من القراء لأنّ يقدّم قراءة تشخيصية مجهرية حقيقية بعيدا عن المجاملات والمصالح الضيقة، وهذا ما يعنيه دونالد ماكدونالد بقوله (مقدّرا) اي محترما من قبل القرّاء.
وفي النهاية تبقى القراءتان التقويمية والتأويلية علمّيتين، ولكن لكل منهما أسلوبه ومنهجه في النظر إلى النص وطريقة تحليله وتقييمه.

ناقد و شاعر عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية