صدر عن دار أهوار في العراق كتاب «السرد الأمومي» 2022 للناقد الجزائري اليامين بن تومي، بعنوانين موازيين شرحا عتبة العنوان الرئيس وتفسيره، فالأول: الصيغ والمنظورات التي أحالت على المقترح المنهجي الجديد، فضلا عن منظورات السرد الأمومي، التي لها صلة بوضع المرأة العربية المبدعة في حقل السرد والحياة، والآخر: مقاربة سيميو- أهوائية لأعمال الروائية الإماراتية فاطمة المزروعي الثلاثة: «زاوية حادة» و»كمائن العتمة» ورواية «قصتي الأخرى» معتمدة رؤية سيميائية لدراسة الانفعالات الجسدية والحالات النفسية التي تُختصر في لفظ (الأهواء).
والسرد الأمومي حسب الناقد بن تومي صوغٌ ذو مفهوم اقترحه ليكون بديلا عن مصطلح (النسوية) وما تفرع عنه من متبنيات ومفاهيم كانت عرضة للالتباس طيلة السنوات الماضية، بعد أن أدرك عن دراية ومتابعة وتدقيق، أن مفاهيم (النسوية) بثوبها الغربي، لم تجد لها أرضا تحتضنها في الثقافة العربية، بسبب الفروق الثقافية والمعرفية التي تميز البيئة العربية من البيئة الغربية، فكان أن اقترح (السرد الأمومي) تقويما للمصطلح السابق الشائع في الدراسات المعاصرة، في محاولة جادة منه للاقتراب من أوضاع المرأة العربية، والمرأة المبحرة في محيطات الكتابة السردية، كي يختصر الحال في قراءة خصّ بها خطاب الروائية الإماراتية فاطمة المزروعي التي وجد سردها يتوافق وتوصيفات (السرد الأمومي) المنفتح على عوالم النساء العربيات، اللائي لاحظ مقدار التهافت النظري الذي لحقهن، والمبدعات العربيات، جراء الركض وراء المصطلح الغربي (النسويات) الذي جر المرأة إلى أن تكون – حسب وصفه – بضاعة استهلاكية رائجة على لسان مزيفي الحقيقة.
يتجاوز السرد الأمومي عند الناقد، إشكالية المصطلحات الثلاثة المنبثقة من مصطلح (النسويات) أعني؛ الأنثوية التي تنفتح على رغائب الجسد وإفرازاته، والنسوية التي تتعلق بنضال المرأة الهادف للتغيير من ربقة العبودية، والنسائية التي تنظر إلى المرأة، وفق وعي ثقافي محدد، فهذه المصطلحات الثلاثة حسب الناقد تجعل المرأة كيانا منفتحا على نواحٍ سياسية وبيولوجية وثقافية وحسب، أما (الأمومية) فهي عند بن تومي القطيعة المعرفية التامة مع تلك المصطلحات، وإحالاتها وفضاءاتها، وهذا يعني أن الأمومية تنزع نحو مغادرة خراب الكينونة، الذي لصق بالمرأة جراء اللهاث وراء المصطلح الغربي المسكون بثقافة المادة والبراغماتية والمحاكاة العمياء، فالأمومة أصل العالم وأصل المعنى، وهي بدء الحكاية؛ بمعنى أن المرأة هي الأصل كما قالت الكاتبة نوال السعداوي، فضلا عن أنها حسب رأيه التأويل الجمالي للطبيعة.
حاول الناقد بمهارة منهجية أن يفكك المصطلحات الثلاثة السابقة في ضوء فهمه لواقع المرأة العربية، التي كان تأريخها النضالي ولما يزل يختلف تماما عن تأريخ المرأة الغربية في نواح مختلفة، مع الإقرار بوجود مشتركات بينهما، لكنها ستكون الأقل قياسا بالاختلاف؛ ولهذا وجد في الأمومية محاولة لتفسير موضوعي للتأريخ العربي بعيدا عن تعقيدات فرويد وعقدة (أوديب) وما لحق بهما من توصيفات ومسميات جاهزة أو مستعارة ماثلة للعيان، على أمل أن يحلل خطاب السلطة الذي يدفع المرأة العربية إلى التبعية والخنوع، وعنده أن هذا التحليل ممكن في ضوء التحرر الشامل من التبعية الكولونيالية، التي لحقت المجتمعات العربية بعد التحرر من هيمنة الاحتلال والاستعمار.
في الفصل الأول (الأنثى وتقويض البراديغم) دخل الناقد فضاء الكتابة عن طريق ثنائية الصلابة: رجل؛ المرونة: امرأة معولا على ضرورة أن يكون للمرأة مشروع كتابة رواية، تقيس من خلالها طبيعة الأزمنة الحديثة وإشكالاتها، فضلا عن أنها تحقق من خلالها اكتمال الذات، على الرغم من مرونتها، وهذا ما يريده الناقد وهو يلاحق روايات فاطمة المزروعي في فصول الكتاب، وفي الفصل الثاني (سيميائية الأهواء: كرونولوجيا التصور) قدم الناقد تصوره النقدي للمنهج الذي سيعتمد عليه في (تشريح) نصوص الروائية فاطمة المزروعي؛ أي المنهج السيميائي الأهوائي، وهكذا انفتح الناقد على مقولات بروب، ومن ثم غريماس وفونتني، وهم يقفون عند الأهواء بوصفها حالة تغلغل في الفعل، ولها تأثيرها المكين في السلوك والثقافة؛ لهذا صارت ميزة في الخطاب، وكان الناقد في الفصل الثالث (حالات التوتر والاستهواء في رواية زاوية حادة) دخل الإجراء النقدي من خلال عنوان الرواية الذي أحال على بعد نفسي معقد لأنثى تعيش في «زاوية حادة» هي الزاوية المظلمة لمجتمع أبوي وقبلي، لا يمنح المرأة إمكانية الكلام، ناهيك من إمكانية الكتابة والإبداع، في إشارة كنائية أراد من خلالها الإشارة إلى الوضع المأساوي الذي تعيشه المرأة في مجتمع الرواية، منطلقا من بنية الرواية واستهوائها الضيق، الذي عبرت من خلاله الروائية عن وضع مربك للمرأة في المجتمعات العربية، وهي تعيش حياة الزوايا وظلامها الدامس، من اعتقال وظلم وتسريد لوضع (الحريم) وهن ينظرن إلى الحياة من ثقب الزاوية المظلمة، وسيمياء تفسيرها الروحي والاجتماعي.
وكان للفصل الخامس من الكتاب انفتاح على (النحوية الأمومية وألعاب الضمير في رواية قصتي الأخرى) وهي قصة أخرى للمزروعي انفتحت على رواية مثخنة بالعذاب والألم والجراح، مشرعة على المصادرة والعقاب، والاستلاب، لكنها قصة الأمومة محالة على لسان طفل اسمه (عنان) يسرد حال الأمومة الذي شكل عالم الرواية بامتياز.
وجد الناقد الرواية وفية لرسم العلاقة المضطربة التي تجمع المرأة بالمكان الذي تشعر به وهي مستلبة الحرية، إلا من الثقب الذي يؤسس لعلاقتها بالعالم بوصفه العين الرائية الراصدة لكل شيء، والمنتجة لمكبوتات المرأة نفسها، وهي تردد (لو كانت النافذة مشرعة على الحرية) هذا الترديد المقطعي سماه الناقد، المقطع الأمومي؛ لأن الأفعال المسيطرة عليه أفعال المشافهة لا القول، الفعل الذي يأخذ بالمرأة إلى شاطئ الخلاص، لذلك يظل جسد المرأة السجينة رهن أنواع الاعتقالات التي لا ترى المرأة من خلالها إلا النزر القليل من شعاع الحياة.
في الفصل الرابع (الفضاء الأمومي ومدارات العشق والكره في رواية كمائن العتمة) وجد في عنوان الرواية استمرارا لوجود الزاوية المظلمة في المجتمع المغلق، وقد مرت الأمومة في شكلها الثقافي بطورين: الأمومة البدوية، والأمومة المدنية، وفي الحالتين بقيت العتمة مرهونة بوجود العباءة السوداء والفضاء الداخلي، وبنية الاستهواء المنفتحة على الحزن، والكآبة والموت البطيء.
وكان للفصل الخامس من الكتاب انفتاح على (النحوية الأمومية وألعاب الضمير في رواية قصتي الأخرى) وهي قصة أخرى للمزروعي انفتحت على رواية مثخنة بالعذاب والألم والجراح، مشرعة على المصادرة والعقاب، والاستلاب، لكنها قصة الأمومة محالة على لسان طفل اسمه (عنان) يسرد حال الأمومة الذي شكل عالم الرواية بامتياز، وهو يتقصى سيمياء الأب والتبعية الظالمة، ومشهدية التقنع، والذات الاستهوائية في عالم يمور بالنسيان والغفلة والحركة البطيئة للمرأة، وقد أدرك عن قرب مقدار الانسجام بين المنهج السيميائي، وثيمات الأمومة في الروايات، وهذا ما أسهم في تقديم رؤية نقدية جديدة منسجمة تماما مع مجتمع الروايات الثلاث وهو يتبارى في القمع والتشريد.
في الخاتمة التي جعلها الناقد معرضا موجزا لما توصل اليه المتن من آراء، بيّن الناقد أن خطابه الأمومي بُني على أنموذج تقويضي تولى تفكيك السرديات الذكورية، ودحضها، وأن الأمومية عنده بديل شامل لما حصل لتأريخ كينونة الأنثى من تقطيع، وسلب، وأن الخطاب الأمومي بني على أهواء وعواطف، بعيدا عن الأيديولوجيات التي تتحكم بالجميع، من خلال الوقفات النقدية التي شرحت الروايات الثلاث التي كانت حقلا مهما من حقول القراءة للناقد وغيره، وهي تنفتح على إدانات مختلفة للخطابات الذكورية، التي تتولى عن عمد ممارسة استراتيجيات جديدة تضطهد الأمومة وتدني من شأنها، وتدعي الوقوف معها.
ولي أن أشير إلى ظلم متعمد للكتاب إنْ حصرتُ متنه في هذه المقالة الموجزة، فهو كتاب يمتد برؤى التنظير والإجراء إلى مساحة أكبر، تتولاها قراءات أخرى منفتحة على المنهج والصيغ والمنظورات التي تحضر في قراءة متنه، شاهدة على علو القلم الذي تولى تحليل ثلاث من روايات المزروعي، تحليلا سيميائيا اختصر السيمياء كلها في السيميو- أهواء؛ دون أن يفرط بشبكة السيمياء التي هي في أيسر تعريفاتها علم موضوعه العلامة ومنهجه التحليل في قراءة منظمة هدفها الوصول إلى تلك العلامة والوقوف عند عتباتها، بقصد الكشف عن طاقاتها الكامنة ومخزونها الفاعل في المتون الروائية مجال الكتاب، من خلال الاحتكام إلى التعالق بين الأهواء والسرد، دون أن تنسى- القراءة – أن الروايات تتواصل دلاليا مع (علامات) ذات مرجعيات مختلفة تتعلق بممارسات حكائية داخل النص، أتاحت للناقد أن يكتشف ارتباط ذات الساردة، وهي تعيش داخل السرد، مع تتابع الأحداث وتحولاتها للإحالة على مقدار الانشغال بما هو أهوائي في النص نفسه.
وبعد، فقد تبين للمتلقي وهو ينهي الكتاب قراءة وتدقيقا، وفرة التنظير النقدي الذي أخذ مئة وتسع صفحات من الكتاب؛ أي المقدمة والمدخل والفصلين الأول والثاني، وهذا تفصيل طويل، على الرغم من أهمية ما عرض من آراء وأفكار واستعارات نقدية لها صلة بالسرد الأمومي.
ناقد وأكاديمي من العراق