إذا كان من حق المؤسسات أن تتولى بنفسها صناعة النقاد، فما المعايير التي تعتمدها في التنصيب والعرشنة؟ وما مقدار أكاديميتها التي بها تَحتسب بحساب دقيق وعميق للأصيل والزائف فلا ينطلي عليها بطلان أحدهما؟
مهما تكن الإجابات فلن نصل إلى جواب قاطع، ما لم تكن تحت أيدينا عينة نقدية نقلبها ذات اليمين وذات الشمال ونختبرها جهرا وإعلانا فلا نستر فاضحا ولا نكتم مسكوتا عنه، كي نعرف معدنها أهو أصيل كالإبريز أم هو هجين مخلوط كالنحاس؟ وعند ذاك سنقر بأنه كان في نقدنا العربي الراهن ما يشرّف المؤسسة الثقافية، وهي تمجد هذا الناقد وتحمد ذاك مجلِّة صنيعهما ومباركة مسعاهما بوصفهما ناقدين يشار لهما بالبنان، ويدلل عليهما بالاعتزاز، أو هما بالعكس ماريا المؤسسة، أو هي التي مارتهما وهادنا القراء، أو هم الذين هادنوهما وناوروا الباحثين فلم يناورهما، أو لعلهم تطامنوا معهما وطاوعوهما بسبب كم التنميط الذي عشش في وعينا كقراء، ولاوعينا كعرب. وعندها سيكون السؤال المطروح هو: كيف ستكون شخصية الناقد العربي الراهن في المطاوعة والامتثال للمؤسسة الثقافية؟ إن إلقاء اللوم على كاهل هذه المؤسسة هو بمثابة محايثة تستعبر وتتوثق كي يتحرر القارئ العربي من الحتمية في الانضواء تحت ظل مؤسسة توصف بأنها عتيدة تعبق بقداسة الاحتذاء، وعلو مكانة الانصياع والتقرب. ولا خلاف أن الممارسات النقدية ليست لها محطات تكون في أولها مبتدئة وفي وسطها ناضجة وفي آخرها محترفة؛ بل هي بعكس أي ممارسة بشرية تبدأ ناضجة وتستمر كذلك إلى أن يكتب لها الانتهاء. والسبب أنها بدون النضج لا تسمى نقدية وإنما هي كتابات أو تعليقات أو تحليلات لا أكثر، حتى يمكن أن يمارسها أي كاتب يمتلك موهبة إبداعية، وهو ما نجده متجسدا في ما يكتبه شاعر عن شاعر أو قاص عن قاص آخر وهكذا.
لا خلاف أن الممارسات النقدية ليست لها محطات تكون في أولها مبتدئة وفي وسطها ناضجة وفي آخرها محترفة؛ بل هي بعكس أي ممارسة بشرية تبدأ ناضجة وتستمر كذلك إلى أن يكتب لها الانتهاء.
والممارسة النقدية أيضا شأنها شأن أي عمل كتابي آخر، عبارة عن هضم لمعين فكري من النظريات والفرضيات والاتجاهات والاعتبارات، ثم إعادة تمثيلها في ظل إمكانيات خاصة وغير اعتيادية لتظهر للعيان كتابة خاصة يطلق عليها (ممارسة نقدية) وهذا ما أدركه الناقد العربي القديم، حين شرع بتأليف كتب ذات منهج محدد، يبين عن توجه حاذق في ممارسة الكتابة النقدية بوصفها كتابة عن الإبداع. والممارسة النقدية أيضا ليست تحريضا على المغالبة والعدوان، ولا هي استخفاف يؤدي إلى المشاحنة والاستهجان، كما أنها بعيدة عن أن تكون دوامة من المماحكات والمساجلات والمذاكرات؛ بل هي أسمى من ذلك كله.
إنها في أبسط تعريفاتها بحث دؤوب عن الحقيقة التي هي الجمال بعينه، وهي المبالاة الفكرية والاكتراث المعنوي، والقناعة التي لا سبيل معها إلى التراجع، واللاأنانية الذاتية كمقتضى من مقتضيات الأمانة الاجتماعية، والارتياح الذهني الذي لا مجال فيه لقلقلة البال وتأنيب الضمير. وهي التجرد الإنساني الذي تعافى من ضغط العاطفة وشطحاتها التي لا تحصن فيها من وسوسة السخط وقهر الاستخفاف وعنف التقديس أو لعنة التضاد والإلغاء، وما إلى ذلك من سلوكيات تنجذب إليها الذوات، التي هي ليست نقدية بينما تتحرز الذوات الناقدة من الوقوع في شركها، متحصنة بالتجريد وحذرة بما تمتلكه من المعرفة من الانزلاق في مهاويها، محققة لنفسها اكتمالا لا يعتريه تضاؤل أو تشتت، ولا يشوبه انكماش أو تكلف، كما لا يعتوره عسر أو تلاش وبالشكل الذي يجعل الهيمنة في الممارسة النقدية للحقيقة الجمالية وليس لسواها. ولا نعزو التباين في الممارسات النقدية إلى التضاد، لأن أي تعدد في تلك الممارسات هو في الأصل تباين. ومن أصول أي ممارسة نقدية الميل إلى التباين والتنازع وبالشكل الذي يجعل كل ممارسة نقدية مكملة لأختها، وإن تعارضت وتباينت معها.
وفي هذا النهج لم يعتر النقد على مدى العصور السحيقة التي مورس فيها أي وهن أو ضحالة؛ بل ظل يتجدد باستمرار وقد نجح هنا وأخفق هناك، غير أنه بقي يجتذب المشتغلين فيه بهويات خاصة لا تعرف التسطيح ولا التبسيط، بل تناوئ المكوث عند ضفة بعينها من ضفاف الممارسة النقدية متحرية التحديث متيقظة من الانعزال في حلبة خاصة، ليس فيها غريم أو مصارع.
الممارسة النقدية همٌّ فكري واعتلال رؤيوي نتيجته صحوة ذهنية ودفقة شعورية، تدفع بالناقد قدما نحو الحقيقة التي معها انتشاء الوعي وتفجر طاقاته التي بها ستتطهر بواطنه من براثن الاحتذاء والمسايرة.
وليس غريبا القول إن ما يقتضيه المضمار الجمالي للنقد هو وجود ند نقدي لكل ممارسة نقدية؛ وإلا حكم على النقد بالفردانية والتطرف والرومانسية، ولا نعني بالفردانية أن ممارس النقد متحرر في تمثله للفعل النقدي، وإنما هو متحزب لنفسه يكتب عن نفسه بدل أن يكشف النقاب عن العالم مزيلا حجاب الرؤية ومظهرا الجمال على حقيقته. والنقد بأسره هو تعبير عن رؤية العالم وأمزجته وإيقاعاته ومقولاته وتأملاته وخرافاته واستراتيجياته وأشكاله. وليس هذا الشوط في الممارسة النقدية بالقضية اليسيرة، لكنها مطروحة واقعيا بدقة وموضوعية وسعة، وليس من العسير أن تكون الممارسة هي كل ذلك معا. ومن يعتقد عكس ذلك؛ فإنما يقلل من شأن النقد ويدفع به صوب الابتذال والتسطيح متشددا في معايير بعينها، متمسكا بمستوى هوياتي خاص، معجبا بقدر من الفن، متحمسا أو متزمتا في المحافظة على نهج معين مشيعا شكلا ما ومتهافتا وجدانيا على تمجيده منصاعا لوجهة نظر واحدة.
وحقيقة كل ذلك مرذولة وممقوتة لأنها لن تؤدي إلا إلى نقد رخو سريع الانهيار مضبب لا وضوح فيه، متفتت لا يعرف الصلابة لن يصمد أمام أي هجوم بسبب ما فيه من فائض عملي سينقلب ضده. والصلابة التي نتوخاها في الممارسة النقدية إنما تنبع من الإحساس الأصيل بأن النقد ليس مجازفة آنية أو هواية طارئة تنتفى الحاجة إليها حينا وتبزع حينا آخر.
والسبب أن الممارسة النقدية همٌّ فكري واعتلال رؤيوي نتيجته صحوة ذهنية ودفقة شعورية، تدفع بالناقد قدما نحو الحقيقة التي معها انتشاء الوعي وتفجر طاقاته التي بها ستتطهر بواطنه من براثن الاحتذاء والمسايرة، وبالصورة التي ترتفع به نحو البلاغة والحداثة والكفاءة والحيوية التي تتوافق حتما مع الفطرة الخيرة وتتماشى معها. وما حلبة الممارسة النقدية سوى إذعان للآخر واعتراف به بقصد اكتشافه وتفسير حالته وتقنين أدواره، وليست تشميرا عن الأردان وارتداء للواقيات كمصدات تمكن من الاحتماء من هجمات الغرماء.
وإذا فهم ناقدنا العربي ذلك كله فسيدرك حينها حجم المسؤولية الجمالية الملقاة على عاتقه، وهو يسبر أفلاك الإبداع ويسبح في فضاءات مجراته. ومن ثم لن يتوانى من التـــنامي وهو يحتذي خط الأسلاف كما لن يتراجع أو يتناقض وهو ينشد بناء صرح نقدي لا تضعضع فيه، مع حساسية تنبثق من صدق الممارسة وطواعية أدائها. والشعور المركزي بهذه الحساسية سيحمي الممارسة النقدية من النضوب والجفاف وسيضمن لها طول الأجل تجذرا وتوريقا وبالشكل الذي يسم الميدان النقدي بالتنوع والتعقيد والتغاير، وقد استوعب مختلف التجاوزات وتحلى بمزيد من التحديدات والاقحامات والتضادات والتقاربات.
٭ كاتبة عراقية