قيل قديماً إن ناقد الأدب كالصيرفي، وقيل حديثًا إنه كالجراح، وفي كلا التشبيهين يكون النقد تالياً للأدب وفي الآن نفسه متمماً لجمالياته أو نواقصه. والانفصام غير وارد بين عمل الناقد وعمل الأديب لاسيما إذا كان الأديب ذا وعي نقدي، وكان الناقد ذا ميول إبداعية يدعم بها حذاقته التخصصية.
وهذا التلاقي بين الأدب والنقد ليس بالجديد، لكن الساحة الأدبية العربية اليوم تشير إلى عكس ذلك، فالأديب ينظر إلى الناقد أما صديقاً حين يستحسن أدبه أو عدوا حين يكتب عكس ذلك أو لا يكتب أصلا، فالنقد بالنسبة إلى هذا الأديب ليس ذا قيمة علمية كما لا أهمية له في إغناء الأدب وتطويره. ولعل كثيرا من الأدباء العرب يحملون هذا التصور، فيتهاونون في التزود بالثقافة النقدية بعكس أدباء الغرب الذين يدركون أهمية النقد وضرورة أن يكونوا ذوي فكر نقدي، وكثير منهم كان منظِّرا في الشعر والسرد مثل هنري جيمس وفرجينا وولف وألان روب غرييه وامبرتو إيكو وكونديرا وأندريه مالرو.
إن الفهم السائد للنقد الأدبي عربيًا جعله عملية تهليلية تأتي بعد العملية الإبداعية، ومن واجبات الناقد أن يكون جسرا للأدباء ليعبروا من خلاله إلى بر الشهرة. وكأن الكتابة عن عمل أدبي هي صك غفران ينقل صاحب الأدب من ضفة إلى أخرى. وهذا ما يقصم ظهر البعير الذي هو الأدب لأنه الخاسر الوحيد في هذا الفهم الخاطئ للنقد ودور الناقد. ويخيل إليّ أن هذا هو السبب في افتقار الجيل الأدبي الحالي إلى التنظير النقدي؛ فما من شاعر أو سارد يمكن أن نشير إليه سوى أدباء العقود السابقة الذين أولوا الوعي والفكر النقديين اهتماما مثل محمد بنيس وأدونيس وجمال الغيطاني ومحمد خضير وفاضل العزاوي ومنصف الوهايبي.
والأدهى من ذلك أنّ الأديب صار يجد في الناقد تعلة يعلق عليها نجاحاته وخيباته، حتى إذا نأى الناقد بنفسه عنه، ووجه اهتمامه نحو مسائل مركزية وهرمية أو قضايا مهمة للعملية الإبداعية، قامت قيامة الأديب، وبدلا من أن ينقد نفسه ويكتشف هفوات وعلل أدبه، تجده يهاجم النقاد قاطبة بأصيلهم ومزيفهم، مكيلا لهم التهم وملصقا بهم شتى النعوت السلبية، لا لشيء سوى إسقاط فشله على الناقد ولكي يقول أنا هنا بعد أن عجز إبداعيا عن قول ذلك في شعره أو سرده.
وقد يقال: إذا كان الأديب ذا فهم خاطئ للنقد، فكيف ننتظر منه بعد ذلك أن يعرف ماهية الوظيفة النقدية؟ وهذا صحيح لكنه نتيجة وهم كبير يقع فيه المتأدبون ومعهم بعض الأدباء وهو أن النقاد كلهم سواء، فما من درجات أو طبقات تميز بينهم وتفرق أصيلهم عن متطفلهم.
ولا جدال في أن للنقد أهمية كبيرة في الإنتاج الأدبي والفني كما لا نقاش في مشروعية أن يسعى المبدعون للوقوف على آراء النقاد في عطائهم لكن ذلك ينبغي أن ينبني على فهم الأديب لماهية النقد والفاعلية النقدية، وهو أمر يحتاج اطلاعا عبر قراءة النقد والتثقف بالفهم النقدي وعندها فقط تكون ثقة الأديب بنصه وقدراته في إبداعه كافية لأن يواصل مشواره الأدبي من دون حاجة إلى ناقد/ جسر. أقول إن اعتماد الأديب على قدراته في تقييم مستوى ما يكتبه هو الأساس المنطقي والصحيح الذي من خلاله صنع الأدباء الكبار أسماءهم واستطاعوا أن يتركوا بصماتهم على خريطة الإبداع الإنساني.
وإذا ما تمكن الأديب من تصنيف نفسه وأدبه، فانه وقتها سيعلم أن النقاد ليسوا كلهم كفاة، ولا هم كأسنان المشط يتساوون في التحليل والحكم ويتشابهون في الذائقات والقدرات ونزاهة المبتغيات وصرامة النظرات، بل هم على عدة طبقات؛ الطبقة الأولى قليل عديدها وصعب مراسها ويمثلها أولئك الذين بأيديهم مفاتيح الولوج إلى النصوص من الذين هم بطبعهم مغامرون يبحثون عن الصعب والخفي وغير المعتاد والشائك، وهم أصلاء سلاحهم الموضوعية والدقة، لا تؤثر فيهم مجاملة ولا مغنمة.
والطبقة الثانية متوسط عدد المنضويين فيها، وأغلبهم يتخذون من الاعتياد واحتذاء المنوال طريقا آمنا يسيرون فيه بتؤدة من دون أن يعرّضوا أنفسهم لأية مطبات أو منغصات. وعادة ما يكونون في شروحهم وتحليلاتهم نمطيين وتقليديين.
والطبقة الثالثة كثير جدا عدد المندرجين فيها، وكلهم أشباه نقاد، لكن كثرتهم تضعهم في خانة النقد جزافا وظلما. أما لماذا هم أشباه فلأنهم يريدون أن يملكوا أدوات النقد بلا كد ولا تعب، وهم مجرد متعلمين هواة بلا دراية منهجية ولا حس موضوعي ولا هدف سوى الشهرة وحب الظهور. وبعض من هؤلاء يغير على نقد الطبقتين السابقتين مجربا حظه في الغصب والانتحال والسطو بينما يميل بعضهم الآخر نحو الكتابة الفوضوية فيطرق كل شيء ويتحدث عن كل شيء، لعله يجد فيه موطئ قدم بها يشبع نزعاته ويبلغ مراده بترضية صديق أو نيل مكرمة رئيس أو محبة متنفذ. وعلى الرغم من فشلهم النقدي، فإنهم يكسبون اعترافا وينالون اطراءات من أنصاف الأدباء خاطئي الفهم للنقد ومسؤولية الناقد.
وبتلاقي الصنفين كبيري العددين ــ أشباه النقاد وأنصاف الأدباء – تكون الظاهرة المَرَضية شاخصة بوضوح والمحصلة المزيد من تراجع الأدب وتدهور النقد. ومن ثم لا آراء نقدية جادة وعميقة تطرح على طاولة النقاد، وما من أعمال تستحق أن يقف عندها الوسط الأدبي سلبا أو إيجابا كما لا ناقد يؤشر عليه ويرتكن إلى كتاباته ويعترف بجهده أو يحتكم إلى قدراته.
ولنا هنا أن نسأل بمرارة: هل يسلم الناقد الأصيل من الانجرار إلى هذا الحشد، فيكون جزءا من هذا الوضع الرديء أم أنه سيستمر في كفاحه، سابحا ضد التيار، متحملا وزر مسؤولياته الجمالية، مواصلا القبض على أدواته وأهمها الدراية والرصانة والموضوعية، مواجها الأنصاف والأشباه؟
لن أكون متشائمة وأجيب بالنفي لكنني أقول إن جلَّ ما يحتاجه الناقد كي يكون على قدر مسؤولياته الجمالية والأخلاقية هو توفر مناخ ملائم يمكّنه من التصدي لكل الذين تقدم وصفهم؛ فيواجه القبح بالجمال ويتدرأ بالأصالة. وأول مقوم من مقومات ذلك المناخ هو وعي الناقد بجسامة وحساسية وأهمية وتاريخية عمله ودوره في صناعة الأدب خاصة وصناعة الثقافة عامة، وأما آخر تلك المقومات فهو تمتع الناقد بعين كاشفة ذات سعة وعمق، تزن بميزان دقيق، فلا تميل كفة على حساب أخرى.
ولا شك في أن هناك عوامل كثيرة عامة ذاتية وموضوعية تعيق عمل الناقد وتحول دون تمتعه بمثل هذا المناخ، منها الوضع العام الهابط اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا، غير أن الأهم برأيي ـ والذي بسببه تثبط عزيمة الناقد وتتقوض أطراف العملية النقدية وتشل حركتها ـ هو الصعود العددي المتواصل للأدباء خاطئي الفهم من الذين تنقصهم الثقافة النقدية فيرون في النقد بهرجة وشهرة، وبسبب ذلك يلاحقون الناقد بشتى سبل التوسل والتسول المبتكرة من أجل استحصال صك أو تعويذة فيما يكتبونه. ولنا أن نتصور كيف سيتوفر بعد كل تلك التصرفات مناخ يلائم الناقد ويسمح له بتأدية عمله بحرية واستقلالية؟!
وقد تكون لبعض الأدباء علاقات أخطبوطية تمكنهم من ملاحقة الناقد في الأماكن التي ينشر فيها لاسيما المجلات، مستعطفين القائمين عليها كي يقترحوا وأحيانا يفرضوا على الناقد الكتابة عن أسماء معينة وحين يرفض الناقد ذلك تغلق تلك المجلات أبوابها بوجهه.
إن كلمة استجداء قليلة في حق هذا النفر من الأدباء الذين يترصدون الناقد في حله وترحاله يقظته ونومه، عمله وراحته، وقد بلغ الأمر ببعضهم ــ ومن شدة حنقهم على الناقد الأدبي الذي لم يجد مسوغات كافية لتناول أعمالهم ــ حدا جعلهم ينشرون كتابات على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي تتهمه بالكسل والمزاجية والتواطؤ والتخوين، والأتعس من ذلك أن يشاطر هؤلاء أعني الأدباء خاطئي الفهم، أشباه النقاد الذين وضعناهم في الطبقة الثالثة، فيناصروهم ويجاروهم في الاتهام مع أنهم في مشاطرتهم ومناصرتهم يدينون أنفسهم بيد أن ذلك غير مهم عندهم، ما داموا يحققون مآربهم في تشويه صورة النقاد الأصلاء من الطبقتين الأولى والثانية.
إن ما هو مأسوف عليه كل الأسف هو هذه الكثرة الكاثرة من أنصاف الأدباء وأشباه النقاد التي صارت تشكل ظاهرة خطيرة وتصنع رأيا عاما هزيلا ومشوها، يحشر النقد والنقاد الأصلاء في زاوية ضيقة، فلا تقوم لهم من ثم قائمة بالمكافحة أو المعالجة. ولعل حسم الأمر في مثل هذه الظواهر لن يكون متحققا على المنظور القريب، بل هو متحقق على المنظور البعيد، وعندها لا يبقى سوى الأصيل وسيرشح الطارئ والطفيلي.
*كاتبة من العراق