يبحث الناقد المصري الشاب، الدكتور رضا عطية، في تجربة الشاعر العراقي سركون بولص الشعرية، وهو في ظني أول كتاب نقدي وبحثي وحداثي يخوض في أساليب وأشكال وبنيات العمل الشعري لسركون بولص، المنتمي زمنياً إلى جيل الستينيات الشعري العراقي، الجيل الذي حاول أن يرسخ عبر أسمائه الكثيرة والمتنوعة تجربة الشعر الجديد، ليعطيها بعداً فنياً آخر، وأفقاً جمالياً مختلفاً ومغايراً، عمّن سبقه من جيلي الرواد والخمسينيات اللذين مهّدا لمسار البدايات الأولى في تجربة الشعر الحديث .
من بين جيل الستينيات، متنوع الطرق والمرامي والأشكال الشعرية والفنية الجديدة، يبرز بقوة في المشهد الشعري الستيني الشاعر سركون بولص، المولود في الحبانية ـ قضاء الفلوجة التابع لمحافظة الأنبار الغربية، والمترعرع ثقافياً في نواحي كركوك الشمالية، في مدينة غزيرة بالبترول والثقافة، ومنفتحة عملياً وبحكم شركات النفط الأجنبية على الثقافة العالمية .
هناك تشكل فضاء سركون بولص الشعري، وهناك تأسست ثقافته المختلفة، والمتطلعة إلى آفاق أخرى، غير أفقها، ثقافة الآخر الذي كان ينهل سركون وصحبه الشعراء منها، ثقافة مُحدَثة ومُجدِّدة ومُبتكِرة، ومتابعة لما يحدث هناك، عبر الحدود في أمريكا وبريطانيا وفرنسا، ومن ثم في بيروت، حيث مجلتا «شعر» و «الآداب»، ومن ثم إلى دمشق حيث مجلتا «المعرفة» و»الآداب الأجنبية».
في سياق هذا المسعى، ذهب الناقد رضا عطية، يتقصّى البدايات الأولى لسركون بولص الشعرية، ملتفتاً إلى تلك المحاولات البدئية التي انبجست من شاعر شاب يبحث عن التميز والتجديد والإبدال، في عالم شعري متشابك ومكتظ بالشعر والشعراء، في بلد مثل العراق، لمّا يزل ينتج نصوصه الشعرية عبر تجربته الشعرية الحديثة، ولما يزل ممثلو هذا الشعر ينشرون ويكتبون وينظرون، بدءاً بالسياب العليل الذي رحل مبكراً في نهاية الستينيات، متواصلة مع الشعراء نازك الملائكة والبياتي وبلند الحيدري وحسين مردان ومحمود البريكان.
كانت فترة الستينيات فترة ثورة ثقافية، وأدبية وفنية، ثورة في الشعر والرسم والنحت والعمارة، وأيضا في القصة والرواية إلى حد ما، ناهيك عن الموسيقى والغناء، في هذه الأجواء ظهرت موهبة سركون بولص الشعرية، لتبشر بشاعر مغاير وجديد، يسعى إلى تطوير قصيدته أولاً، فالسعي لم يكن سهلاً في غابة الشعراء المترعة بالأشكال والأنواع والأسماء الشعرية، فالجواهري كان في أوج تألقه، وكذلك البياتي، ومن ثَمّ سعدي يوسف ومظفر النواب ورشدي العامل ويوسف الصايغ، وغيرهم من الشعراء الخمسينيين اللاحقين لفترة الرواد والناشطين في مجالهم الشعري أوان ذاك .
وبذا نجد الناقد رضا عطية يكتنه الأبعاد الأولى لقصيدة سركون، متقصياً الشاردة والواردة، ومقتنصاً الثيمات والدلائل والرموز والعلامات، عبر شبكة متداخلة، في نسيجها الشبكي المحبوك، بطابع بالاستعارة والمجاز، وعامل البدائل الكنائية، تلك المندغمة والمدافة في عمق قصيدة سركون، وكل ذلك يأتي عبر دراسة تطبيقية وتحليلية، تعتمد المقاربة والبحث والاستقصاء الشامل لنسيج القصيدة السركونية، مولية الوضوح والتبصّر والقراءة المستنيرة، العناية الأمثل لتكون كمنهاج ودليل عمل لسبر عوالم قصيدة سركون بولص الشعرية .
وبما أن الكتاب يبحث مسألة الاغتراب عبر المكان في شعر سركون، فقد قسّم المؤلف كتابه إلى ثلاثة فصول توضح طريقة دراسته وعمله النقدي وفكرته الجمالية التي انطوى عليها الكتاب وتمثلت بالفصول الآتية :
ـ الاغتراب في المكان الأول .
ـ الوعي بالمكان الآخر .
ـ استعادة المكان الأول .
وهو حين يرى إلى الشاعر الموغل في الغربة، يجد أن الاغتراب: «لا يتجلى في طبقة الوعي وحسب، لكنه يتسرب إلى لا شعور الشخصية، ومن تبعاته أن الإحساس بالخوف ينمو طافياً على سطوح اللاوعي كذلك، إذ ينشط اللاوعي في فترة النوم، حيث الأحلام والكوابيس، في حالة الأحلام المفزعة التي تنشط فيها مخاوف الذات الكامنة في اللاوعي، وحتى في مفازة الحلم وفضاء اللاوعي تبدو الذات في حالة اغتراب وفرار مكاني».
وينظر الناقد أيضاً إلى استخدام الشاعر لذاته، من خلال تقنيات القصيدة وإمكاناتها الرؤيوية، في تداخل الذات، ولعبتها في استخدام ضميري المخاطب والمتكلم، تلك الذات الشاعرة والواعية، والعارفة كيف تنقل القصيدة من مشهد إلى آخر، ومن ضمير إلى آخر سواه .
في الجزء الثالث يسعى المؤلف إلى تأكيد ثيمة الوطن المستعاد عبر القصيدة، والشعور المتراكم عبر مرور الأزمنة بالفقد، وأي فقد الوطن الذي لا يغيب في وعي الشاعر، بل يتأكد بالعمل الجمالي، وبتكريس الذات الشاعرة للغوص في الخبايا، في الماضي الذي تركه الشاعر كنبتة في الريح، ليعود الشاعر بين حين وآخر، من أجل أن يتفقد النبتة هل ذوت، أم طالت، أم تقصّف شيء من أوراقها في رياح السنين التي مرت؟ سنين الحروب والجائحات، سنين الحصار والموت والفقدان المجاني، ومن هنا يستدعي الشاعر الذكرى، يستدعي المرايا القديمة، لكي يتمرآى فيها ويرى صورة من أحب ومن غاب عنه ومن رحل، صورة الأم والأب والأخت، والأصدقاء الكثار الذين تركهم في أرضه الأولى، فمنهم من انتهى بمرض خطير، ومنهم من رحل في موت مجاني بقذيفة، أو في انفجار ما، في قصف لطائرة، في سجن تحت التعذيب، في الهجرات التي طالت الكثير من الناس والأهل والأقارب.
لذا المنفى في عين الرائي وفي مخيلة الشاعر الخبير، الشاعر المُمتحَن والمتأسي والبَرِم، سيجد كل شيء يصادفه في المنفى مثالاً للمقارنة، وفي الغالب تأتي المقارنة لصالح الوطن البعيد، كون يوليسيس تاه وما عاد بمستطاعه العودة إلى الوطن الذي بات نوعا من الحلم، نوعاً من اليوتوبيا، ونوعاً من الأفكار الطوباوية، والأحلام الأليغورية، تلك التي تأتي ضمن استعارة سابغة، أو علامة خيميائية تحمل دلالاتها الكبيرة، بكبر الوطن المتلاشي في البعيد، والماثل أبداً في الذاكرة، فالفرات بالنسبة للشاعر المنفي هو غير نهر «التيمز»، وشارع «أوكسفورد سيركس» هو غير شارع «أبي نواس» و»مقهى الكوستا» هي غير «مقهى البلدية» أو «مقهى المُعقَّدين» و»سينما السندباد» التي رثاها الشاعر في قصيدة، هي غير سينمات «البيكاديللي» والشمس المشرقة دائماً في بلده، غير موجودة في مكان الإقامة مثل لندن، على سبيل المثال، هذه العاصمة الكوزموبوليتانية التي أقام فيها الشاعر لأكثر من عام، هرباً من عزلة كاليفورنيا، أو الإقامة في ألمانيا في بيوت الإبداع من أجل التأليف والكتابة هي أيضاً تتمتع بالجو البارد والسيئ :
« بينما يتحدثون هنا
عن الطقس الرديء دوماً
أو تدهور العملة المستمر
بينما يتحدثون عن موت ممثل
أو غراميات أمير،
كيف نستعيد نحن العالم الذي كان!
لندن في أعيننا قلعة أشباح،
التيمز مجرد جدول من الحمأ الكسول،
لا يشبه نهراً لنا اسمه الفرات» .
ولكون الشاعر عراقياً آشورياً، فهو ينظر إلى تراثه الميثيولوجي كمكمِّل لشعره، فشعره يغترف من الأسطورة الآشورية، وتاريخها اللامع والماثل في لا وعيه، وفي عمق ذاته الباحثة عن المثال الغارب، من أجل التماهي مع الحياة، ومن أجل وجود المعادل الموضوعي لها، لكي يتم في النهاية الشعور بالتسامي الداخلي، الشعور بالذات التي تتعالى وتصعد مع الآلهة، إلى مشارف من الرؤيا الممكنة، الرؤيا الآتية، عبر التاريخ الحضاري الذي لا يزال يشع ويسطع في الأزمنة المعاصرة، والأوقات اليومية الحاضرة الممتدة في حياتنا الآنية، وبذا جسد ذلك في قصيدة بعنوان «أمام منحوتة في قسم الآشوريات في المتحف البريطاني»، ففي هذه القصيدة يستحضر بعين الشاعر وخياله المبحر، والمستبطن للكائنات، والتواريخ والعوالم، الزمن الآشوري والسومري والبابلي الذي لا يزال حياً، ينطق في تفاصيل العالم، فترد رموز كثيرة ودلالات تحفر في عمق الحاضر، يمثلها مردوخ وتيامات ونركال وعشتار وكذلك أريدو وبابل .
بيان القول، إن كتاب «تجربة المكان» في نص سركون بولص، يشكل إضافة حقيقية لمعمار النقد العربي الحديث والمعاصر، ويُعد أول تجربة نقدية رائدة تبحث في إرث شاعر رحل، وترك لنا نهراً من الشعر الجاري في حياتنا دون توقف .
رضا عطية: «تجربة المكان في نص سركون بولص»
دار الثقافة، الشارقة 2017
244 صفحة.